عرف أبي بكر في الجاهلية بلقب الصَّدِيقُ لصدقه؛ ولذلك كان يتولى أمر الديات وينوب فيها عن قريش مما يعكس ثقة قومه في شخصه وكان الجميع يرضى بما حكم والعكس مع الآخرين، كما كان يعرف بالعتيق لجمال وجهه، وهناك أسماء أو صفات أخرى لكن الصَّدِيقُ أصبح هو اللقب السائد خاصة بعد إسلامه؛ لأنه صدق النبي عليه الصلاة والسلام في الإسراء والمعراج.
ولد الصَّدِيقُ في العام الثاني أو الثالث من عام الفيل؛ ولذلك فهو أصغر من النبي عليه الصلاة والسلام بنحو عامين ويلتقي نسبه ونسب النبي عليه الصلاة السلام في الجد السادس، مرة بن كعب وكلا أبويه من بني تيم وهم قوم يشتهرون بالدماثة والأدب، وكان معظم أعمالهم التجارة وتميزت أسرة الصَّدِيقُ بالمودة المتصلة والعميقة مع والديه وأسرته طوال عمره، وتميزت صفاته الخلقية بحسن المعاشرة، فكان أليفًا ودودًا ولين الطبع متواضعًا، فلم يتعال على أحد قط قبل أو بعد الإسلام والخلافة؛ بل كان أكثر تواضعًا بعد الخلافة، وكان كريمًا وسخيًا ومع كل هذه المودة والألفة والتواضع، كانت فيه حدة في الحق.
ويقول أبو بكر عن نفسه (إذا رأيتموني غضبت فاجتنبوني) وكانت هذه الحدة تنم عن سرعة التأثر فيه، وهو إنسان صادق من نفسه وملتزم فلم يشرب الخمر في الجاهلية، وكان دائمًا يتقي الشبهات، وكان شجاعًا فلما أسلم لم يبال أن يعلن إسلامه ويجهر بصلاته، ولما وجب القتال كان هو في مقدمة المقاتلين وأقرب المقاتلين إلى رسول الله في كل غزوة وكل مأزق، كما كان الصَّدِيقُ سريع الفطنة ويقظ الضمير وإحساسه عال بالآخر، وكان دائمًا في مقدمة كل خير.
وفي هذا المجال، يقول عنه سيدنا عمر بن الخطاب ما سابقت أبا بكر في خير قط إلا سبقني هوه إليه، ويقول سيدنا علي عن أبي بكر، هو السباق دائمًا إلى الخير، وهو في الحق صادق دائمًا حتى في أصعب المواقف، ففي يوم بدر نهض إلى مبارزة ابنه حين كان ابنه مع المشركين، وكان ابنه عبدالرحمن من أشجع الشباب وأكثرهم مهارة في القتال لولا أن منعه الرسول عليه الصلاة والسلام، ولما أسلم عبدالرحمن بعد ذلك قال لأبيه لقد تعمدت عدم قتلك، فقال أبوبكر أما أنا فلن يمنعني عنك سوى رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وكانت هذه هي أهم صفاته الأساسية، والآن ننتقل إلى مفتاح شخصية أبي بكر من وجهة نظر كاتبنا العقاد، فإن الشخصية الصادقة والكريمة وسريعة الغضب يغلب على أصحابها الإعجاب بالبطولة والإيمان بالأبطال، وهذه الشخصية أكثر شعورًا وتقديرًا للعظماء والعظمة، لذلك كان الإعجاب بالبطولة طبعًا أصيلًا في الصَّدِيق ويقترن عادة بالثقة والإيمان بالأبطال والبطولة بوجه عام، وهذا هو مفتاح شخصية الصَّدِيق الذي يفسر الكثير من مواقف حياته؛ وهو الإعجاب بالبطولة، وهذا هو السر الذي يفسر مواقف الصَّدِيق والإعجاب بالبطولة في التاريخ الإنساني شيء عظيم؛ لأن البطولة سر تطور التاريخ الإنساني والإعجاب بها فضيلة كبرى وعظيمة؛ لأنها تساعد وتساهم في نجاح الأبطال، وتدعو للحق والصدق مع الذات وأحيانًا يحدث العكس مع أصحاب النفوس الضعيفة؛ حيث يتحول الإعجاب بالبطولة إلى حسد وحقد وقد يؤدي للعند والإنكار؛ ولذلك يعتبر الرجل الذي يعجب بالبطل ويؤيده ويسانده رجلًا صادقًا مع نفسه ومؤثرًا وإيجابيًا لمجتمعه ولكل من حوله، والبطولة درجات وكذلك الإعجاب بها درجات.
وهنا نتحدث عن أرفع درجات البطولة في التاريخ الإنساني وأرقى درجات الإعجاب، فالصَّدِيقُ لم يعجب ببطل يزدهي بالعصبة أو المال أو النفوذ أو القوة المجردة أو مظاهر الزخرف والخيلاء، لم يكن شيئًا مما سبق سبب إعجاب الصَّدِيق بصديقه؛ لأن محمدًا عليه الصلاة والسلام لم يكن ذا سطوة؛ بل كان عرضة للأذى، كما لم يكن من أصحاب الزخرف والخيلاء أو المال الوفير، ولم يكن له أتباع كثيرون؛ بل العكس أعداؤه هم أصحاب النفوذ والمال والاتباع والخيلاء، وإنما البطولة التي أعجب بها الصديق، هي البطولة التي ليس هناك بطولة أشرف منها؛ وهي بطولة الحق والخير والاستقامة، والأهم بطولة الفداء من أجل الحق برغم كل ما سوف يلقاه من عنت الأقوياء والجهلاء؛ تلك هي البطولة الحقيقية في أعلى مراتبها، وتلك هي بطولة محمد عليه الصلاة والسلام، وهي في نفس الوقت عبقرية الصَّدِيق في الوصول إلى جوهر البطولة، والبطولة الحقيقية في أعلى مراتبها.
ولذلك آمن الصَّدِيقُ بالإسلام ورسوله ورسالته وصدقه بعد ذلك في كل خطواته، وكل مراحل الدعوة والرسالة نتيجة قناعته بالبطولة، وارتبط ذلك الإيمان بالقلب ورؤية الفكر معًا، وظهر ذلك واضحًا وبلا أي تردد في جميع مراحل الرسالة، فحينما جاءه أهل مكة يسخرون ويشككون في رحلة "الإسراء والمعراج" فما كان منه إلا أن قال: "لئن قال ذلك فقد صدق"، وأخبرهم أنه يصدقه في أبعد من ذلك في خبر السماء، واندهش بعض المشركين من ذلك، وعادوا يسألوه أتصدق أنه ذهب إلى بيت المقدس وعاد في نفس الليلة؟ رد الصَّدِيقُ نعم أصدقه، وفيما هو أبعد من ذلك.
هذا هو الصَّدِيقُ لم يشك لحظة في رسالة صديقه، لأنه مقتنع ومؤمن بالبطل والبطولة في أسمي معانيها، لأن الصَّدِيقُ لا يأخذ كل قصة أو موقف على حدة ولا يجزئها قطعة قطعة أو كل خبر على حدة، فيبطلها كلها بخبر أو جزئية معينة؛ بل يتناول الأساس المرجعي للموقف كله، فإذا اقتنع به بنى عليه كل ما فوقه من إضافات، وجوهر المسألة هو الإصلاح أو الفساد، ووضع الصَّدِيقُ أمامه مسألة التوحيد أو عبادة الأصنام؛ عبادة الله الأحد أم عبادة الصنم، الاختيار بين أخلاق الجاهلية أم أخلاق الإسلام.
ومن هنا كانت اختيارات الصَّدِيق وبنى عليها؛ ولذلك كان من الطبيعي أن يصدق قصة الإسراء والمعراج، مع ملاحظة مهمة هي أن اختيار الصَّدِيق في هذا التوقيت الإيمان بالرسالة والرسول، كان اختيارًا عبقريًا؛ لأن الأغلبية كانت تقف ضد الرسالة؛ ولكن الصَّدِيقُ لم يشك لحظة واحدة ووقف مع الحق ضد الأغلبية معرضًا نفسه لمخاطر وعداوات كبيرة، وهذا هو المنطق السليم والعقل الرزين؛ ويؤكد ذلك مرة أخرى موقفه من الإسراء والمعراج، فلم يبالِ بالحدث في حد ذاته، بل رجع للمنطق والعقل والمبدأ.
والتاريخ يؤكد أن الصَّدِيق كان أسرع الناس لفهم عظمة الإسلام ورسالة محمد عليه الصلاة والسلام، فهو بطل تاريخي جدير بالإعجاب، وبالتالي الاتباع، وهذا هو الصَّدِيقُ في تصديقه وولائه على أحسن ما يكون كمثال وعظة للبشر جميعًا، وهذا واضح في موقف الصَّدِيق في صلح الحديبية؛ حيث اختلف الصحابة وظهر منطقان متقابلان؛ منطق عمر بن الخطاب يقول إننا على الحق فلم نقبل بالأقل؟ ومنطق الصَّدِيق أني أشهد أنه رسول الله فلم لا أتبعه فيما ارتضاه؟ ولذلك كان الصَّدِيقُ دائمًا عنوان الاقتداء، وعمر بن الخطاب عنوان التصرف؛ وبالرغم من أن كليهما معجب بالبطولة، ولكن الإعجاب بالبطولة كانت الصفة الأولى التي تسبق جميع الصفات ومفتاح شخصية الصَّدِيق، فإذا كان عمر ثاني المتصرفين بعد نبيه وأستاذه وهادية، فالصديق أول المقتدين بغير سابق ولا نظير، وهما بعد قرينان يتقابلان في كل حركة من حركات التاريخ المجيد، وكل ظاهرة من ظواهر الأمة ولاسيما في إبان الدعوات.
تناول كاتبنا الكبير عباس العقاد شخصية خليفة المؤمنين أبي بكر الصَّدِيق في هذا الجزء من حيث صفاته ومفتاح الشخصية، وقد يكون لقب الصَّدِيق جامعًا لمعظم صفاته وشخصيته في نفس الوقت، لأن تصديق البطولة شيء عظيم ومهم في كل العصور وفي كل المجتمعات، وعامل مهم جدًا لنجاح البطولة وتقدم الإنسانية في كافة المجالات، وهذه سمات الإنسان الصادق الشجاع والقوي الذي يدافع عن الحق من خلال الدفاع عن البطولة، وهناك شخصيات أخرى نفسها ضعيفة تقف ضد الحق والبطولة؛ سواء كان لكسب رضا ذي النفوذ، أو ضعفًا أو حسدًا أو جهلًا؛ مما يعوق تقدم ومسيرة الأمم؛ ولنا في الصَّدِيق الصادق الصدوق المثل الأعلى والقدوة الحسنة.. رحمة الله عليك أبي بكر الصديق.