رغم أنه لم يرتق إلى قرار ولم يهبط إلى إعلان صحفي إلا أن البيان الرئاسي - الذي صدر من مجلس الأمن بخصوص أزمة سد النهضة بعد طول انتظار زادت على شهرين من طرح القضية أمام المجلس - يمكن أن يسمى باللغة الدبلوماسية خطوة مهمة يمكن البناء عليها في معركة التفاوض مع إثيوبيا، ولعل ما ورد في البيان من دعوة واضحة وصريحة للتوصل إلى اتفاق "ملزم ومرضٍ" بين مصر والسودان وإثيوبيا يعد مكسبًا كبيرًا على صعيد التفاوض فهذه الصيغة تعكس قناعة المجتمع الدولي بأهمية إلزام أثيوبيا باتفاق قانوني ينظم عملية ملء وتشغيل سد النهضة، وهو الإلزام الذي طالما كانت إثيوبيا تتهرب منه طوال السنوات العشر الماضية في عمر المفاوضات؛ بل إنه يجهض مزاعم إثيوبيا التى تروج لها أن السد من أمور السيادة، ولا تقبل أن تلتزم فيه بأي شيء، وكانت تؤكد صيغة التنسيق بدلا من الإلزام، وبالطبع هناك فارق كبير بين الأمرين.
وهنا يحسب للدبلوماسية المصرية أنها نجحت في إقناع دول مجلس الأمن بهذه الصيغة وإن كان المأمول صدور قرار من المجلس وليس بيانًا لإلزام إثيوبيا بالانصياع والانخراط بجدية ودون تسويف، وبلا مراوغات اعتادت عليها طوال السنوات الماضية في مفاوضات تفضي لاتفاق قانوني وملزم يحفظ لها حق التنمية، ويحافظ لمصر على حقها في الحياة والحصول على حصتها التاريخية في مياه النيل.
ومن المؤكد أن ما تضمنه البيان الرئاسي الصادر من مجلس الأمن لم يكن هو المستهدف الذي سعت إليه مصر؛ بل كان المسعى هو قرار أممي واضح وفق المشروع المقدم من الشقيقة تونس، ودعمته مجموعة الدول العربية والذي كان يطالب باتفاق قانوني ملزم خلال 6 أشهر برعاية الاتحاد الإفريقي ومتابعة من مجلس الأمن، وأن يدعو المجلس في مشروع القرار "الدول الثلاث إلى الامتناع عن أي إعلان أو إجراء من المحتمل أن يعرّض عملية التفاوض للخطر"، ويحض في الوقت نفسه إثيوبيا على الامتناع عن الاستمرار من جانب واحد في ملء خزان سدّ النهضة.
ولا شك أن عدم تحديد سقف زمني للتوصل لاتفاق وعدم إلزام إثيوبيا بالتوقف عن أي إجراءات أحادية تعوق التفاوض مثل الملء الأحادي يعد نقاط ضعف يمكن أن يستغلها الجانب الإثيوبي في سياسة المراوغة والتسويف التي اعتاد عليها إلا أن وصول المجتمع الدولي إلى قناعة بأهمية القضية وخطورتها على الأمن والسلم الدوليين يعد عامل ضغط على أديس أبابا لتغيير سلوكها وتعديل مواقفها وتصحيح مفاهيمها وسياساتها، مصر نجحت في توثيق مخالفات إثيوبيا ومراوغاتها، في مجلس الأمن وأقامت عليها الحجة على رؤوس الأشهاد في العالم ولم يعد أمامها سوى الانصياع الكامل لإرادة المجتمع الدولي للتوصل إلى اتفاق ملزم.
أهمية البيان الرئاسي الصادر عن مجلس الأمن أيضًا رغم أنه كما قلت أقل في مفعوله عن القرار إلا أنه على أقل تقدير أوجد لأزمة سد النهضة وثيقة أممية في مجلس الأمن يمكن أن تعود إليها مصر والسودان إذا راوغت إثيوبيا؛ سواء في عدم التوصل لاتفاق قانوني ملزم أو في عدم تحديد سقف زمني أو إذا اتخذت إجراءات أحادية في ملء وتشغيل السد دون التوصل لاتفاق، وهنا يصبح مجلس الأمن أمام مخالفة صريحة وواضحة من إثيوبيا للبيان الرئاسي يستوجب إجراء أشد إذ إن صيغة "الإلزام" التى وردت في البيان الرئاسي هي نتيجة مشروطة لا تتحقق إلا إذا انخرط الأطراف الثلاثة بحسن نوايا للتوصل إلى هذا الاتفاق الملزم، والعكس صحيح لن يتم الوصول إلى اتفاق إذا قام أحد الأطراف الثلاثة بما يعوق التفاوض الذي يضفي إلى الإتفاق المنشود، وربما الإشارات الأولى التى وردت من أديس أبابا فور صدور البيان الرئاسي لا تبشر بتغير في مواقفها.
الحقيقة الدقيقة أن مصر تؤكد كل يوم أنها داعية سلام وخير وأن إدارتها لملف سد النهضة يتم باحترافية - وبرؤية شاملة - وبحكمة ومهارة وإدراك لكافة المعطيات والمتغيرات الإقليمية والدولية.. ربما تطول المفاوضات.. لكن لن تضيع الحقوق.
[email protected]