Close ad

د. عبد الرحيم العلام يكتب: "مصر التي في خاطري" (1-2)

4-9-2021 | 17:37

لم أعد أتذكر كيف ومتى تسللت مصر إلى وجداني حلما قديما مشتهى، لكن المؤكد، هو أن ذلك حصل منذ أن تفتقت حواسي، في زمن مضى،على إدراك ما لهذا المكان من سحر ووقع خاص، اعتبارا لما تثيره فينا مثل هذه الأمكنة الساحرة وناسها من ألفة وإدمان ورغبة وشوق.فهل هو تأثير الدراما والأغاني المصرية في شخصيا، في مرحلة عمرية سابقة؟ من المؤكد أنه كان لهذا كله في البداية تأثير كبير في تغلغل ذلك الحلم المصري في وعي ذلك الطفل الذي كنته، وفي جعله يكبر معي ليرافقني إلى اليوم.

تعددت أشكال ارتباطي بمصر وتنوعت مستوياتها، فحين أغادر مرحلة عمرية إلى أخرى، كان حلم مصر يرافقني في خطواتي مذ كنت طفلا، ويكبر فيَ شيئا فشيئا، حتى قبل زيارة هذه الـ "مصر" المشتهاة، وقد أغوتني بسحرها وأسرتني بمتخيلها حتى قبل أن أراها.

في البدء، رأيت جمال عبدالناصر في بلدتي
أمضيت فترة طفولتي ببلدتي "فم الجمعة" الواقعة بسلسلة جبال الأطلس المتوسط، وفيها تابعت دراستي الابتدائية، أتذكر أنه في تلك المرحلة، كانت تواجهني صورة الرئيس جمال عبدالناصر مثبتة على جدران بعض مقاهي بلدتي وبيوتاتها، إلى جانب صور الملكين محمد الخامس والحسن الثاني.

لم أتبين في ذلك الوقت، بسبب صغر سني، سر هذا الاهتمام من بني جلدتي بصورة هذا الرئيس، ولم أجرؤ على طرح هذا السؤال على أحد في تلك الفترة، فالسؤال نفسه كان أكبر من سني، ولم أدرك سر تعليق صورة الرئيس جمال عبدالناصر ولا مناسبة تعليقها إلا في وقت لاحق، بعد أن غادرت بلدتي في اتجاه المدينة، بحثا عن ملاذ دراسي آخر.

ما هو مثير في هذه الحكاية، وحسب ما أدركته فيما بعد، هو أن الرئيس جمال عبدالناصر، كانت سيرته في ذلك الوقت قد ملأت الدنيا وشغلت الناس، وهو ما جعل شكلا معينا من صوره النصفية تملأ جدران بعض فضاءات بلدتي، بحجمها الكبير وبمنظرها الجانبي، وهو يرتدي بذلة أنيقة، ويضع ربطة عنق ومنديلا أبيض يطل من جيب سترته العلوي، ويطلق نظرات عميقة، ربما كانت في اتجاه وطن عربي يحتاج إلى الوحدة.

وسرعان ما أدركت، بعد استقراري في مدينة الرباط، سر ذلك الاحتفاء بالرئيس جمال عبدالناصر من لدن ساكنة قريتي، بما كان له من تأثير في الشعوب العربية، وقد صار وقتئذ زعيما عربيا للقومية العربية في العصر الحديث، فاخترقت شعبيته المنطقة العربية بكاملها، كما علقت عليه الشعوب العربية آمالها، فحصل أن أعلن عن تنحيه عن جميع مناصبه السياسية، بسبب نكسة 1967، لكن الجماهير ظلت متشبثة به، فطالبته بالعودة إلى منصب الرئاسة.

من بين ما أثار انتباهي في قصة صورة للرئيس جمال عبدالناصر معلقة، هو أن ساكنة بلدتي، رغم انشغالهم اليومي بتدبير أمور الحياة وشؤون الفلاحة والتجارة، وبالرغم من بعد البلدة عن المدينة الأقرب وعن تأثيراتها المباشرة، بدا أن لهم اهتماما خاصا بالشأن العربي؛ إذ كانت تهب عليهم رياحه وقتئذ عبر أثير الراديو، وخصوصا عبر هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، التي اقترنت بدايات حصص أخبارها بدقات ساعة "بيج بين"، وبالعبارة الشهيرة لمذيعها: "هنا لندن"، في غياب تام للصحف الورقية التي لم تكن تصل بلدتي في ذلك الزمان، وهو ما جعل شريحة قليلة من الساكنة في صلب بعض الأحداث الكبرى آنذاك، محليا وعربيا ودوليا.

لقد شكلت صورة الرئيس جمال عبدالناصر إلى جانب الدراما والأغاني المصرية، بداية تخلق علاقتي بمصر وبداية وعيي الأولي بالخارطة العربية والدولية، تحت تأثير دروس التاريخ والجغرافيا في المدرسة، في فترة كنت ما زلت فيها مرابطا ببلدتي، قبل أن أغادرها بحثا عن ملاذ آخر.

ولا أنسى، هنا، التأثير الكبير الذي كان للسلسلة التربوية "اقرأ"، التي ألف أجزاءها المعلم المغربي الكبير الراحل أحمد بوكماخ، في شخصيا، بما لعبته هذه السلسلة من أدوار مفيدة ومؤثرة في تربيتنا وتعليمنا في مرحلة التعليم الابتدائي، في السنوات الأولى من سبعينيات القرن الماضي. وقد تضمنت هذه السلسلة في جزأيها الرابع والخامس تحديدا، نصوصا مرجعية لكتاب وشعراء من مصر.

 كان تركيزنا، في تلك الفترة، منصبا أكثر على الاستمتاع بنصوص تلك السلسلة وبالصور المصاحبة لها، مع محاولة التعرف على كتاب نصوص مرجعية كان يوردها صاحب السلسلة، ابتداء من الجزأين الخامس والسادس، بمثل ما يورد تعاريف قصيرة بهم في أسفل نصوصهم، ضمن أسئلة الفهم والشرح والتمارين، فمع هذين الجزأين بدأ انفتاح المعلم بوكماخ، وبشكل لافت، على بعض النصوص المرجعية، من المغرب ومصر وغيرهما من البلدان العربية والغربية، بما يتماشى وتطور مدارك التلاميذ. 

انتقلت إلى الرباط، فوجدت مصر في انتظاري
تزايد تأثير مصر علي وتوسعت آفاقه، بانتقالي إلى مدينة الرباط لمتابعة الدراسة، بحكم أنه في ذلك الوقت، أواسط سبعينيات القرن الماضي، لم تكن بلدتي تتوفر على مؤسسات للتعليم لما بعد المرحلة الابتدائية، وهو ما اضطرني، مثل غيري من أبناء القرية، إلى مغادرة البلدة، بحثا عن وجهات أخرى وعن أفق دراسي جديد. كان اختياري لمدينة الرباط، حيث كان يقيم أخي الأكبر ومعظم أفراد العائلة، باستثناء والدي الذي بقي مرابطا بالبلدة، يعمر البيت العتيق ويضفي عليه حالا من التدين والوقار، ويسهر على جمع ما كانت تجود به الأرض من غلة وخيرات، إلى أن توفي رحمه الله، فتبعه أعمامي الواحد تلو الآخر.

وجدت ضالتي في مدينة الرباط، رغم قساوة الغربة وتغير ظروف العيش وسرعة إيقاع الحياة فيها، هذا ما أحسسته في بداية إقامتي بالمدينة، حيث تطلبت ألفتها وقتا طويلا لأتعود على نمط العيش فيها بعيدا عن الأهل وعن مراتع الطفولة. وما بدد قليلا من ثقل الغربة ووحشتها، هو أن أحد أعمامي، واسمه عبد الكبير العلام، كان يشتغل أمينا للمركز الثقافي المصري بالرباط الذي أنشئ سنة 1957، إلى أن أدركه التقاعد، وتوفي مباشرة بعد ذلك، وفي نفسه الكثير من مصر.

 كان هذا العم الطيب يغدق عليَ الكثير من عطفه وكرمه واهتمامه، فقد كان سببا آخر في تزايد انشدادي إلى مصر، ففي كل لقاءاتي بالعم بالمركز الثقافي أو ببيته وحتى خارجهما، تحضر مصر بأخبارها وحكاياتها، في محاولة من العم أن يقربني من طبيعة الأدوار وأشكال التأثير التي كانت لأم الدنيا في تعليمنا وتكويننا وثقافتنا.

 وكان شهر رمضان فرصة أخرى سانحة، بالنسبة لي، لكي أجالس بعض الإخوة المصريين، من المسئولين في السفارة المصرية بالرباط أو في المركز الثقافي، كان عمي يستضيفهم ببيته في وجبات إفطار رمضانية، مع ما كان يتخللها من أحاديث وضحك وكلام ساخر، فكنت أتابع حديثهم وأستمع لهم وأستمتع بدردشاتهم باللهجة المصرية، وكأني أشاهد مسلسلا مصريا. 

أحب عمي مصر، رغم أنه لم يزرها قط، فازداد حبي لها من خلاله، أنا الذي لم أكن، أيضا، قد زرتها بعد. ومن شدة تفاني العم في خدمة المركز الثقافي المصري، بقيت بصماته، على مستوى فهرسة كتب المركز الثقافي وجردها وغيرها، شاهدة إلى اليوم على عمله التأسيسي. فمن شدة تعلق عمي بمكتبة المركز وحرصه على صيانتها والحفاظ عليها، حصل أن كرمه الرئيس جمال عبدالناصر بوسام الجمهورية، اعتبارا لما لعبه العم من أدوار مشهود له بها، وتحديدا على مستوى حفاظه على مخزون المكتبة من الكتب والمجلات والوثائق.

لقد كانت مكتبة المركز سبيلنا نحن للمطالعة وإنجاز العروض والفروض، على مدى أجيال مختلفة، بالنظر لما لعبته المكتبة من أدوار كبيرة ومؤثرة ومضيئة، في تثقيفنا ومساعدتنا على الدراسة والتحصيل والإدراك، في مختلف حقول الآداب والفنون والقانون والعلوم الإنسانية وغيرها.

ومن بين المواقف الحكيمة التي تحسب للعم رحمه الله، أنه في ظل تفاقم الأزمة بين المغرب ومصر، إبان حرب الرمال بين المغرب والجزائر سنة 1963، اضطر المركز الثقافي إلى إغلاق أبوابه، فأبان العم لحظتها عن موقف شهم؛ إذ حرص على صيانة مخزون المركز من الكتب والوثائق، فقام بنقله إلى مكان آخر بالعاصمة، يسمى آنذاك "المعهد المصري"، فبقيت الكتب محفوظة فيه في أمان، إلى أن عادت العلاقات الدبلوماسية بين المغرب ومصر إلى طبيعتها، فتم إرجاع الكتب إلى المركز الثقافي، وقد أعاد فتح أبوابه من جديد في وجه رواده.

 ظل العم يفتخر بذلك الوسام الذي تلقاه من الرئيس جمال عبدالناصر، بل اختار لتعليقه أجمل زاوية في غرفة الضيوف، فظلت شهادة الوسام المكتوبة بخط شرقي جميل، والحاملة لاسم "جمال عبدالناصر" وتوقيعه، تطالعني عند كل زيارة لبيت عمي، مثلما كانت صورة الرئيس تقابلني ببعض مقاهي بلدتي وبيوتاتها، في فترة سابقة.

لن أنسى فضل هذا المركز الثقافي وتأثيره علي، فقد ساهم بنصيب كبير، وخاصة مكتبته الثرية، في تكويني بشكل لافت في المرحلتين الدراسيتين الإعدادية والثانوية. ففي هذه المكتبة تعرفت على مدارس الشعر العربي الحديث التي كانت ضمن مقررات التعليم الثانوي في تلك الفترة، واقتربت من شعرائها وأعلامها، وفيها أيضا اطلعت على بعض مؤلفات طه حسين وأحمد أمين وشوقي ضيف وحنا الفاخوري ومصطفى لطفي المنفلوطي وعبد القادر المازني والعقاد وعز الدين إسماعيل ونجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس، وغيرهم كثير.

 كانت الأفلام المصرية التي يعرضها المركز الثقافي المصري، من حين لآخر، تزيد من انشدادي إلى عالم مصر الثقافي والفني. فقد كنت في مرحلة عمرية سابقة، مغرما بالبحث عن أوجه الشبه بين حكايات الروايات المكتوبة، والحكايات التي تقدمها المسلسلات المستوحاة منها. فكثيرا ما كان يعجبني أن أستبق أصدقائي وبعض أفراد عائلتي إلى معرفة نهاية بعض المسلسلات المستوحاة من الروايات، عبر لجوئي بشكل مسبق إلى قراءة تلك الروايات لأدرك نهاية حكاياتها، قبل أن يصل الآخرون إلى معرفتها في نهاية حلقات المسلسل.

 تحضرني الآن بعض المسلسلات المصرية التي كانت تجود بها علينا القناة التلفزية المغربية الوحيدة وقتئذ، بمثل ما كانت تجود علينا، من حين لآخر، بأغاني أم كلثوم في سهرات أيام السبت، مع أن ذوقي الفني في تلك المرحلة، لم يكن قد استوعب أغاني أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وشادية، في وقت كانت فيه أغاني عبد الحليم حافظ قد بدأت تتسلل إلى أعماقي، فكانت تشدني إيقاعاتها وتخترقني، من قبيل أغاني بعض أفلامه الشهيرة، كما هو الحال في فيلم "أبي فوق الشجرة".

أذكر من بين الروايات التي قرأتها موازاة مع مشاهدتي لحلقات المسلسل التلفزيوني المستوحى منها، رواية "لقيطة" لمحمد عبد الحليم عبد الله وسيرة طه حسين "الأيام". كان ذلك في زمن متقدم، أيام ترددي على مكتبة المركز الثقافي المصري. أتت بعد هذين النصين، وإن تم ذلك في زمن متأخر نسبيا، رواية "خالتي صفية والدير" للروائي المصري بهاء طاهر. 

وتشاء المصادفات أن ألتقي بعد ذلك بالروائي بهاء طاهر في القاهرة، وكنت قد كتبت عن روايته، فأخبرني باطلاعه على مقالي عن روايته، كما عبر لي عن إعجابه بما كتبت، كان ذلك إبان دورة سابقة من دورات مؤتمر الرواية العربية بالقاهرة.

ومن بين المصادفات الجميلة اللاحقة، أن هذا المركز الثقافي الذي ساهم في تكويني في مرحلة أساسية من الدراسة والتحصيل، عاد في مرحلة لاحقة، بعد تخرجي من الجامعة، فدعاني للمشاركة في أحد لقاءاته التي ينظمها بقاعة العروض داخل المركز، حصل ذلك للأسف في غياب عمي، الذي كان قد رحل دون أن يستمع لكلمة شكر قدمتها في حقه، في مستهل مشاركتي الأولى في إطار أنشطة المركز.

روايات الهلال ونجيب محفوظ وأنا
حدث أن اشتد عودي النقدي في المرحلة الجامعية، فخضت مغامرة نشر ما كنت أنجزه من قراءات وتحاليل في نصوص روائية مغربية وعربية متفرقة، في ملاحق ثقافية وطنية. كنت في تلك الفترة مدمنا على قراءة "روايات الهلال"، التي كانت تصل المغرب بانتظام، فكنت حريصا على اقتناء نسختي منها قبل أن تنفد من السوق، ومكتبتي الخاصة تزخر اليوم بأعداد وافرة من هذه السلسلة الروائية الرائدة، وسلسلة "كتاب الهلال".

كنت معجبا بقراءة "روايات الهلال"، وخاصة تلك التي تمثلت فضاء الريف المصري، حيث كان يثيرني المجتمع الريفي في مصربشكل كبير، وقد يعود ذلك الاهتمام ربما إلى كوني أنحدر من المجتمع الريفي، وأيضا إلى كثرة مشاهداتي السابقة لما كانت تنتجه الدراما المصرية عن الأرياف، باعتباره إنتاجا فنيا أبدعت فيه السينما والتلفزيون بمصر، بشكل فني مبهر وجذاب، فكنت شديد الإقبال على قراءة روايات الريف التي كانت تنشرها "سلسلة روايات الهلال" وغيرها من دور النشر الأخرى، وقد يكون ذلك أيضا من بين أسباب مواصلة اهتمامي، بشكل كبير، بالريف المصري، في تحوله وتطوره، وفي تعقيداته وصوره وصراعاته، وفي تشابك العلاقات الإنسانية والاجتماعية والثقافية داخله.

وهذا التوازي الحاصل عندي بين هاتين الصورتين للريف المصري (المكتوبة والبصرية)، هوما جعل هذا الريف يسكن ذاكرتي، ويهيمن على قراءاتي النقدية في مرحلة زمنية معينة، فصرت أعرف أشياء كثيرة عن ريف ما قبل الثورة وريف ما بعدها، كما أضحت معرفتي وافية بالريف المصري وبعاداته وشخوصه وطقوسه وتقاليده، كتلك المرتبطة أساسا ببعض الظواهر كالثأر والموت والهجرة، بمثل ما أدركت مدى صعوبة الكتابة عن الريف عموما، مقارنة بالكتابة عن المدينة، وبشهادة نجيب محفوظ، أحد كبار كتاب رواية المدينة في العالم العربي، في اعترافه في كلمته على ظهر غلاف رواية "عطش الصبار" ليوسف أبورية، الصادرة سنة 1989 ضمن سلسلة روايات الهلال، بأنه لا يستطيع أن يكتب عن الريف بمثل هذه الكتابة الفاتنة، فقد خلقوا في أعمالهم الإبداعية ريفا بزمانه ومكانه، بشخصياته ولغته أيضا.

كان جزء كبير من قراءاتي ومقالاتي المنشورة يتقصى روايات الريف بمصر، إلى درجة كان فيها الأصدقاء ينعتونني بكوني ناقدا متخصصا في روايات الهلال وفي الريف المصري. وقد حضرت في مقالاتي، كما هو الحال في أحد كتبي النقدية، مجموعة من روايات الهلال الريفية، من قبيل روايات: يوسف القعيد ويوسف أبو رية وبهاء طاهر وأحمد الشيخ وفؤاد قنديل وخيري شلبي، وغيرهم.

وساهم اشتغالي على روايات الريف في مصر في تفتق وعيي النقدي، بمكون الفضاء تحديدا، وسأبقى مدينا لهذا النوع الروائي، فقد مكنتني روايات الهلال من الاقتراب أكثر من إدراك المجتمع الريفي المصري، في مكوناته الاجتماعية والثقافية والسلوكية والقيمية والعقائدية وغيرها.

وفي سياق الحديث عن "روايات الهلال"، فقد تنبهت، في مرحلة سابقة، بحكم اهتمامي بإعداد ببليوغرافيا شاملة للرواية المغربية، كانت قد وزعت في طبعتها الأولى، الصادرة عن اتحاد كتاب المغرب، على الحاضرين والمشاركين في لقاء "الرواية المصرية المغربية" الثاني، الذي استضافه المجلس الأعلى للثقافة أواخر تسعينيات القرن الماضي، زمن أمينه العام الأسبق الصديق العزيز الدكتور جابر عصفور، أقول تنبهت إلى أن الرواية المغربية قد عرفت بدورها طريقهاإلى النشر ضمن "سلسلة روايات الهلال"، وغيرها كثير من النصوص الروائية العربية التي تم نشرها في إطار هذه السلسلة. كان ذلك، في زمن متقدم نسبيا من تاريخ الرواية المغربية، حيث نشرت السلسلة سنة 1974 أول رواية مغربية، بعنوان "إكسير الحياة" لمحمد عزيز الحبابي، وبتقديم لمحمود تيمور، قبل أن تليها روايات مغربية أخرى، صدرت، ضمن السلسلة نفسها، في فترات لاحقة ومتباعدة، وإن بقيت نصوصا محدودة.

لقد كان لاهتمامي بفضاء الريف عموما، أثره البين على تفكيري الأكاديمي في مرحلة لاحقة، فقد كان موضوع أطروحتي لنيل شهادة دكتوراه الدولة عن "القرية والمدينة في الرواية المغربية"، وقد وسعت لحظتها من أفق اشتغالي الأكاديمي ومن فضاء قراءاتي ومداركي وأسئلتي. 

كذلك حضر نجيب محفوظ في أحد أبحاثي الجامعية، في مرحلة تالية، أي قبل أن تطأ قدماي أرض الكنانة، من خلال اشتغالي على رواياته التي كان يستهويني فيها الجانب الشكلي أيضا، بحكم انشغالي النظري في تلك المرحلة ببعض المفاهيم السردية، ومن بينها مفهوم السارد، فاشتغلت على رواية "المرايا"، إلى جانب استحضاري لنصوص روائية أخرى مرجعية لكاتبنا نفسه، من حيث استجابتها لجانب أساسي في تفكيري النظري السردي آنذاك، شكلت رواية "المرايا" أرضية نظرية وتحليلية لتجريب بعض مفاهيمه.  

هو إذا تراكم روحي ووجداني وثقافي وتخييلي، وحكايات امتلأت بها لفترة طويلة قبل زيارتي الأولى لمصر، فشكل ذلك معينا كبيرا بالنسبة لي، لاكتشاف هذه الساحرة (مصر) التي تعرفت عليها قبل أن أراها، ففتنتني بسحرها قبل أن أرتمي في أحضانها. فالحلم الذي كان متجذرا في كياني، منذ بداية إدراكي لكنه الأشياء ولعمقها، قد كبر، واتخذ صورا وأوجها مختلفة ومبهجة وممتعة ومفيدة، ليتعمق الارتباط بعد ذلك بأرض الكنانة، فاتخذ أشكالا أخرى أكثر تأثيرا فيَ، ما يجعل من هذا الارتباط في متانته نوعا من الانتماء إلى هذا الأفق المصري العظيم والارتماء فيه، إنسانيا ووجدانيا وثقافيا وإبداعيا واجتماعيا، بما هو أفق بدا طافحا بالمحبة والإعجاب والشوق والرغبة والحنين والانجذاب.

ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين
جاءت مرحلة السفر إلى أرض الكنانة، ولأول مرة في حياتي. تم ذلك عبر بوابة قاهرة المعز، باعتبارها المحطة الأولى المشرعة أمام كل حالم لدخول مصر، وكما هو الحال بالنسبة لباقي رحلاتي التالية إلى أرض الكنانة. أتذكر أنني لم أستطع أن أنام في الليلة التي سبقت يوم سفري، اكتفيت فقط بجمع حقيبتي وأغراضي، ثم سافرت إلى القاهرة عبر مطار الدار البيضاء، محملا بإرث كبير مما خزنته ذاكرتي، من صور ووجوه ومشاهد وأفلام ومسلسلات وأغاني وحكايات واقعية وخيالية وأسطورية، تكونت لدي عبر مراحل عمرية متعاقبة، وتحديدا من خلال مشاهداتي وقراءاتي، وأيضا من خلال ما كان يجود به عليَ عمي من حكايات وقصص وكتب، كنت أستعيرها من مكتبة المركز الثقافي.

سافرت إلى مصروقد نضجت مداركي، فحققت حلما راودني طويلا، في يقظتي ومنامي، لأجدني فجأة في غمرة حلمي الكبير وقد صار حقيقة، وها أنا أدخل مصر مطمئنا آمنا، وها هي القاهرة تشرع لي ذراعيها وتدعوني إلى نبضها وسحرها وإلى جاذبية روائحها وألوانها وألفة أناسها الطيبين. ومن بين ما ميز تلك الزيارة الأولى وأضفى عليها نكهة اعتبارية خاصة، أنها لم تكن زيارة سياحية حرة، بل كانت زيارة بمناسبة ثقافية كبرى، وبدعوة من المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة، كان ذلك أواخر تسعينيات القرن الماضي، وكأن مصر بذلك أبت إلا أن تبادلني المحبة بالمحبة، فكان لتلك الدعوة الأولى لزيارة مصر أثرها الكبيرعلي، امتد إلى اليوم.

وما زاد من متعة زيارتي الأولى للقاهرة، ووسع من دائرة الانبهار لدي، أن بعض الأدباء المصريين رتبوا لنا، موازاة مع مشاركتنا في تلك الندوة، زيارة لعراب الرواية العربية نجيب محفوظ، فكان اللقاء بكاتبنا في أحد الفنادق الذي لم أنتبه لاسمه ولموقعه، أمام هول المفاجأة.

 كانت خطواتي تسبقني وأنا أعبر الممر المؤدي إلى المكان الذي كان يجلس فيه نجيب محفوظ، وجدناه في انتظارنا وكان لحظتها يحدث بعض جلسائه.

تساءلت وأنا لا أصدق نفسي، هل أنا حقا في حضرة المحترم. لكن سرعان ما استعدت تركيزي، بغية الاستمتاع بجلستنا النادرة مع نجيب محفوظ، قبل أن نفارقه وأنا لا أعلم متى يمكنني لقاؤه مرة أخرى، وهل سألتقي به حقا. كنت أستمع إلى الكاتب الكبير باندهاش كبير وباحترام شديد، وهو يرد على أسئلة الحاضرين وعلى تعاليقهم، بجدية أحيانا وبسخرية مثيرة للضحك أحيانا أخرى، كان سمعه قد بدأ يضعف قليلا، وكان الروائي يوسف القعيد يرفع صوته، وهو يلقي بكلامه مباشرة في أذن كاتبنا الكبير. ورغم ذلك، فقد ظل نجيب محفوظ يحتفظ بذاكرة قوية، وبخفة دم مثيرة، وبابتسامة تظهر على محياه ثم سرعان ما تختفي.

 غمرتنا تلك الجلسة مع نجيب محفوظ فرحا ومتعة وألفة، لم أكن أرغب في أن تنتهي، وما كنت أحلم بأنها ستتحقق في يوم من الأيام، بعد كل ما قرأته لكاتبنا الكبير من روايات وحوارات عديدة، وما شاهدته من شرائط مصورة عنه. وما زاد من حرارة ذلك اللقاء ومن حميميته، أن كاتبنا استجاب بكل أريحية لرغبتنا في أن تلتقط لنا صور معه للذكرى، لتنضاف تلك اللحظة إلى لائحة أحلامي المتناسلة عن مصر. وصورتي مع نجيب محفوظ، هي من بين الصور القليلة التي أعتز بتعليقها في مكتبتي، إلى جانب صور أخرى جمعتني بكتاب آخرين كبار: محمد عزيز الحبابي وإدمون عمران المالح وجابر عصفور ومحمود درويش والطيب صالح ومايكل مارش وأدونيس.

حدث بعد ذلك اللقاء النادر مع نجيب محفوظ، أن تزايد اهتمامي بتجربته الحياتية، كما هي متشظية في كتاباته السردية وفي حواراته السيرذاتية، المكتوبة والمرئية، كما في كتابه الأصداء. فإذا كانت الكتابات الروائية لكاتبنا قد حظيت باهتمام نقدي وتحليلي كبيرين وواسعين، على مدى مسيره الإبداعي الطويل، فإن الاهتمام بسؤال السيرة الذاتية عنده ظل خافتا.

وهو ما جعل انشغالي النقدي لفترة، يتحول نحو موضوع السيرة الذاتية عند نجيب محفوظ، فحررت بصدده دراسة عنونتها "نجيب محفوظ: سيرة بصيغة الجمع"، استندت فيها إلى بعض المفاهيم النظرية عن الأتوبيوغرافيا، كما بلورها منظر السيرة الذاتية الفرنسي فيليب لوجون، وسعدت بنشرها ضمن مواد أحد كتبي بعنوان "ضوء القراءة"، الصادر سنة 2004، الذي ضم كذلك قراءات في سير أخرى، ذاتية وموضوعية، من العالمين العربي والغربي.
__
رئيس اتحاد كتاب المغرب

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
د. عبد الرحيم العلام يكتب: "مصر التي في خاطري" (2-2)

إذا أحبتك مصر .. فتحت لك ذراعيها .. تعددت زياراتي لمصر وتوسعت، فظلت القاهرة بالنسبة لي، ملاذا ساحرا، أجدني، في كل مرة، منجذبا إليه وإلى سحره وألفته. فالقاهرة،

الأكثر قراءة