موضوعات مقترحة
حكايات من الواقع يكتبها: خالد حسن النقيب
قبل أن تمضي بي الأيام ويسرق الوهن مني صحتي عبر سنوات العمر البعيدة كنت أحيا حلما جميلا علي أرض الواقع مع رجل أتنفسه حبًا وعشقا، يملأ عيني عن كل الرجال، يشعرني دائما أني أشبعه عاطفيًا وكأنثي لا تعادلني في عينه أي امرأة في العالم.
عشر سنوات قضيناها نرفل في خيالات الأحلام الوردية، نستنشق رحيق الحب إلي ما لا نهاية لكنها الأيام ضنت علينا بأسباب السعادة فقررت أن تحيطنا بسياج من التعاسة والشقاء حتي لفظت مشاعرنا أنفاسها الأخيرة.
المأساة بدأت بتعرف زوجي علي جارة لنا في العقار، تعيش بعد رحيل زوجها وحيدة، لجأت إلينا لمساعدتها في حل بعض المشكلات الخاصة بميراثها عن زوجها، كانت علي خلاف مع أشقائه، واستطاع زوجي لأنه محام أن يسترد لها حقوقها، لم يكن هناك ما يثير الشك أو الريبة فالأمر لا يتجاوز حدود المعروف الذي نسديه لجارة إلا أن الشيطان كان ينسج خيوطه العنكبوتية حولهما في غفلة مني.
كانت جارتي جميلة بعض الشيء، طروبًا، تعتز بجمالها في مجون متعمد أحيانا، أما زوجي رغم كونه محاميا له صولاته وجولاته في المحاكم ولديه من خبرة الدنيا وأقدارها الكثير بحكم عمله إلا أنه وقع فريسة سهلة لها، استطاعت أن تغشي عينيه طمعا ورغبة حتي أسرته في فراشها تابعا ذليلا لشهواته تلهو به كيفما تشاء.
في البداية لم أكن أعلم شيئًا عن العلاقة الآثمة التي تربط بينهما حتي بدأت تغييرات جذرية في أحواله معي، يتهرب مني دائما بحجج واهية، صحته تتهاوي وكأنه قد هرم فجأة، أهمل عمله وبات يغيب عن البيت كثيرًا.. هالني ما ألم به ودمر سعادتنا واستقرارنا.. ترقبته وكنت له مثل ظله حتي وضعت يدي علي الحقيقة، رأيت زوجي وحبيبي وأمل عمري كله في أحضان جارتي يلهث حبا بين يديها، جائعا لها في ذل وخنوع.
أسقط في يدي وكادت الصدمة تقتلعني من وجودي وتلفظ الروح مني غير أني تشبثت بحبي العظيم في قلبي.. أجل تشبثت بحبي فهو مصدر قوتي ووجودي في الحياة، به أعيش وعليه أستند.. وقبل أن أتهاوي انهيارا وصدمة تلقفتني مشاعري حنوا وترفقا فالزوج الذي أحببته عمري بالتأكيد يستحق كل هذا الحب رغم خيانته وفعلته الشنعاء.
قلت في نفسي إنها لن تهزمني وتأخذ مني زوجي وحبيبي وأن المشاعر التي بنيت علي الصدق والتفاني بيني وبين زوجي لهي الأقوي من شيطانيتها الماجنة وأنوثتها الطامعة، المغتصبة حقا ليس لها.
قررت ألا أتخلي عنه وإذا كان الحب الذي ربط بيننا في إطار مقدس سنوات عظيمة سوف تتجلي عظمته الآن في الحفاظ عليه وإنقاذه من براثن إنسانة شريرة التهمته بأنثوية منحرفة طمعا فيه وفي ماله. قررت ألا أواجهه، وواريت غضبي ومرارة الصدمة في صدري، ألقاه بقلب ضاحك، أبتسم له وقلبي يبكي، أصبر عليه حتي يطمئن، أعوضه قدر طاقتي، أهبه الحب صادقا، أزين من نفسي وأنوثتي لعلي أغنيه، أحجب عنه كل ما يزعجه، أحميه من نفسه وألاعيب شيطانة أحبها من دوني.
اجتهدت قدر طاقتي دون جدوي فقد كانت هي الأقوي مني سيطرة عليه، جذبته إليها، أوغرت صدره ضدي، دفعته للانفصال عني دفعا، كل هذا وهو في يدها ألعوبة صماء غاب عنه الوعي والعقل، لم يحفظ لي حبي له وعشرتي معه.. انفصل عني وألقي بي من حياته نفاية يلفظها كارها متأففا أنا من كنت له سندا وقوة، تركني لمن تقضي عليه وعلي مستقبله.
بضعة شهور مضت علي انفصالنا لم يسأل فيها عني.. ترك لي كل شيء من أجلها وكما ترك قلبي والبيت ترك في أحشائي جنينا عمره أشهر.. لم يكن يعرف أنه بعد سنوات من الصبر بيننا سوف يصبح أبا.. غادرني بقسوة فانتقمت منه بنفس القسوة.. لم أبلغه شيئا بأمر الطفل حتي خرج إلي الدنيا وكرست حياتي كلها من أجله، لقد تحول الحب العظيم الذي سكن قلبي لأبيه وأصبح له وحده عشت بابني ولابني ما بقي لي من عمر.. تمضي به الأيام ويشتد عوده صبيا ثم فتيا يافعا.. هو الآن في الثانوية العامة رجلا بمعني الكلمة اكتملت رجولته في عيني عندما سألني عن أبيه صغيرا فحكيت له حكايتي معه وكيف أنه لم يسأل عنا طول الفترة الماضية.
قال لي ابني إنني كل ما له في الدنيا ولا يحتاج لأبيه في شيء وإنه سوف يعوضني عن غيابه ولن يتركني أبدا حتي لو تزوج.
إلي هنا والحياة تسير كيفما يتفق لها حتي جاء يوم تفجرت فيه مأساتي من جديد.. لقد أتي حبيب الماضي وطليقي يطرق بابنا.. لم يكن حتي ذلك الوقت يعلم أن له ابنا في الدنيا.. كانت ملامحه هي نفسها ولكن هيئته الرثة تشي بكل شيء.. لم يكن في حاجة لأن يحكي لي ما جري له فحاله وما وصل إليه يرتسم عليه.
لم أغلق الباب في وجهه.. استقبلته بقلب الماضي يسكن في صدري لم تنطفئ جذوته بعد، أخبرته عن ابنه وكيف بات رجلا فأعادت له الفرحة نضارته.. كانت ملابسه التي تركها زمنا مازالت موجودة.. أعنته أن يتخذ لنفسه الهيئة التي تليق به قبل أن يأتي ابننا ويلقاه لأول مرة. هاله أني لم ألفظه حقدا وكراهية لفعلته معي.. قلت له الحب العظيم الذي جعلني أتمسك به في الماضي هو الذي جعلني علي يقين من أنه سوف يأتي يوما ما وجعلني أحيا علي أمل صبرا وحبا. حكيت له عن ابنه وكيف أنه صورة مجسدة لكل هذا الحب وهو الأمل الذي عشناه في صدر شبابنا بعد حرمان عشر سنوات.
امتن لي باسمًا أني احتويته في يأسه وضعفه منتظرًا تلك اللحظة التي يأتي فيها ابنه ويملأ عينيه به.. كنت أعتقد أن ابني سوف يسعد بأبيه ويفرح لمقدمه فهو لم يره منذ ولادته ولم ينعم بحنانه يوما ولكنه ليس دائما تأتي الرياح بما تشتهي السفن فقد واجه الابن أباه بغير ما تمنيت منه، ما أن رآه حتي تجمد مكانه تلجمه المفاجأة.. لم يستطع أن يكبح جماح ثورة اشتعلت بداخله فجأة فاستدار ماضيا عنه، هرول إليه أبوه، تعلق بملابسه، أراد أن يحتضنه، يسترضيه السماح لفراقه كل هذه السنين ولكن ابنه رفض قبوله وقال له: اعتبرت من زمن أن والدي قد مات بموت ضميره وإن كان علي قيد الحياة.. لا توقظه اليوم فلا خير في وجوده اليوم.
عبثا حاول الاب أن يقنع ابنه أنه لم يكن يعلم بوجوده ولاذ بي فتحدثت لابني وأخبرته أنني من أخفيت عن أبيه وجوده وقلت: يا ولدي خشيت أن يأخذك مني وأحرم منك إلي الأبد وتعيش في كنف امرأة ساقطة تسيطر علي أبيك وتقضي علي مستقبله.
المشكلة يا سيدي أن ابني يحمل أباه جرم حرمانه من حنان الأب ويريد أن يحرمه من بنوته كما حرمه من أبوته قبلا. ماذا أفعل فأنا مشاركة في الجرم بإخفائي أمر ابني عن أبيه وأتمني عودة الحياة الطبيعية بيننا ويعو ض زوجي ابنه حرمان السنين الماضية كلها ؟
ل ـ م ـ المنيا
بالتأكيد سيدتي الحب العظيم والأحاسيس الصادقة تحيا في قلوبنا لا تموت مع الزمن وأنت أثبت ذلك عمليا بذلك الصبر المرير الذي عشته سنوات طويلة تكورتي فيها علي صدمة خيانة الحبيب وآلام الظلم والانفصال والشقاء والعمل علي تربية طفل كنت له الأب والأم في ذات الوقت ولكن بقدر كل هذا الحب ارتكبت جريمة تجنين ثمارها اليوم وإن كنت أجد لكي أعذارا كثيرة دفعتك لإخفاء أمر إنجاب الطفل عن أبيه أهمها خوفك من أن يأخذه منك ويحرمك منه وأمر آخر يتعلق بتلك الحياة الضائعة التي كان طليقك مقبلا عليها مع امرأة استولت عليه عقله ونفسه. صحيح كنت معذورة ولكن الأمر جلل وها هي النتيجة طفل خرج إلي الدنيا حانق علي أبيه كاره إهماله وتجاهله له سنوات عمره كلها.
قد يكون الولد محقا بعض الشيء في رفض أبيه لو كان الأب بالفعل علم بوجوده وأصر علي غيه وتركه وأهمله ولكن الأب رغم كل عيوبه ومأساته لم يكن يعلم بوجود ابنه ولابد لابنك أن يعي هذا ويدرك أن مرضاة ربه مرهونة برضا أبيه عنه أيا كان وصدق المولي عز وجل عندما قال( ووصينا الإنسان بوالديه احسانا)( العنكبوت:7). ولعمري إن ابنك يعيش صدمة بالغة أساسها أنك لم تمهدي له مقدم أبيه فلم يجد أمامه غير أن يحاسبه علي كل السنين الماضية ويقول له أضعتني وليدا فأضعتك شيخا ولكن ذلك ليس من خلق الإسلام يا ولدي.. تجمل بالصفح وارتمي في أحضان أبيك ترتوي منها وتطفيء عطش السنين الطويلة حرمانا وحنانا.