نصف قرن من الاعتداءات الصارخة والانتهاكات الفجة والممارسات اللا إنسانية، نصف قرن والعالم يغوص في عوالم الصمت والتجاهل واللامبالاة، نصف قرن والهوية الدينية للعالم الإسلامى تنتهك، نصف قرن والدولة العبرية تطيح بالحق العربى.
يحدث هذا وقد بلغت الحضارة أشواطًا إعجازية في مسار التقدم التقنى الذى لم يكن باعثًا في رؤية الإنسان المعاصر على النهوض الأخلاقى والقيمى، وهو ما جعل من الحضارة المعاصرة معنى منقوصًا شائنا يحمل ازدواجية وتناقضية تثير الكثير والكثير من الشكوك التى يرتد العقل على أثرها مخذولا!!
فلا القانون بنصوصه وهيبته ولا التاريخ بمدوناته ووثائقه ولا الجغرافيا بخرائطها وحقائقها الثابتة ولا المبادئ بقدسيتها مثلت رادعًا قويًا لأهواء الدولة العبرية الماضية دومًا في إستراتيجيتها نحو تأجيج الصراع وإشعال الخصومة مع الكتلة العربية.
فرغم مرور أكثر من خمسين عامًا لم تغادر الذاكرة العربية الإسلامية أبشع الذكريات المرتبطة بقضيتها المركزية.. قضية الأقصى وإحراقه على يد الصهيوني العتيد "مايكل دينيس روهان" في واقعة تعد في ذاتها مرحلة مفصلية في ملف الأقصى لأنها طمست وغيرت الكثير من المعالم التاريخية، فمن واجهات المسجد وأعمدته وأقواسه وسقفه ونوافذه وزخارفه ومحتوياته النادرة إلى مسجد عمر بن الخطاب والذى يمثل رمزًا كبيرًا لذكرى دخوله مدينة القدس بجانب تخريب محراب زكريا ومقام الأربعين و كلها آثار لها قداستها المطلقة في وجدان الشعوب الإسلامية.
وتواصلا مع هذا التاريخ القاتم تدأب سلطات الاحتلال على إقرار وتنفيذ مشروع تهويدي بمدينة القدس يبدأ باستمرارية التطهير العرقي والتهجير القسري للفلسطينيين ويمتد ليطول الأقصى ببناء جسر دائم بين ساحة البراق وصحن الأقصى استهدافًا لسريان النمط التغييري المأمول في الطابع العربي الإسلامي، ذلك فضلًا عن نشاطات الصندوق القومي اليهودي الداعم للمشروع الاستيطاني بالاستيلاء على المزيد والمزيد من الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس الشرقية وتخصيص المليارات لتسريع وتيرة واقع مختلق.
إن اللحظة المحتدمة التي تعيشها قضية الأقصى أنما تطرح بذاتها تساؤلات كثيرة يتصدرها: ما هو المغزى الفعلي لشعار "سيف القدس لن يغمد" والذى أطلقته الفصائل كتعبير يشير أول ما يشير إلى أن المعركة مفتوحة ولم تحسم رغم مهاترات الدولة العبرية؟ لكن ما هي الآليات الجديدة التي يمكن أن تسهم في زحزحة أوضاع الأقصى؟ وما هى القيمة الحقيقية لقرار مجلس الأمن 2334 لعام 2016 والمؤكد صراحة على عدم شرعية الاستيطان؟ وكذلك ما هي القيمة الفعلية لقرار مجلس الأمن 271 لعام 1969 الذي أدان إحراق الأقصى؟ وإلى ماذا ترمي كلمة مستشار الرئيس الفلسطيني من أن ساعة تحرير القدس والأقصى قد باتت أقرب من أي وقت مضى؟ وما هي التدابير والخطوات التي اعتمدتها منظمة التعاون الإسلامي إزاء مستقبل الأقصى لاسيما وقد أنشئت بسبب جريمة إحراقه؟ ولماذا تتقاعس منظمات المجتمع الدولي عن توفير الحماية اللازمة للأماكن الدينية المقدسة بمدينة القدس بعد كل ذلك الشوط الصراعي مع الدولة العبرية؟ بل متى يتوقف نزيف الأرواح التي تحصدها الآلة العسكرية للدولة العبرية يوميًا ومنذ أكثر من نصف قرن؟ ألا يطرح المجتمع الدولي إستراتيجية تسوية عادلة ملزمة تحمل عمقًا إنسانيًا وتحول دون استمرارية ملحمة إبادة الشعب الفلسطيني؟
إن الشراكة التي أبرمت بين رابطة العالم الإسلامي ومعهد توني بلير للتغير العالمي كان لابد أن تمتد إلى كافة القضايا ذات الحساسية الدينية والتي حادت بها الظروف التاريخية والسياسية إلى منعطفات غيرت مسارها المنطقي والطبيعي لتشهد بالفعل تجليات التغير في إطار تصحيح المفاهيم حول التنوع الديني والثقافي تحت مظلة حوارية لا تعادي الآخر من أي منطلق عقائدي أو عرقي أو أيديولوجي.
إن سيادة الروح التضامنية للعالم الإسلامي هي السبيل الأوحد للتواجه مع أخطر قضية تمس جوهر هويته ورسالته وتاريخه الحضاري وأن القضية مهما تشعبت أبعادها واستغلقت على الحل في إطار المتغيرات السياسية اللحظية فلابد من تفعيل ميكانيزمات جديدة مدعومة بفكر متفوق فاعل في تحجيم الخصم ورد الأمور إلى نصابها.