تنتهى الآن حقبة طويلة استمرت 76 عاما. تنتهى مع الخروج الأمريكى من أرض الأفغان يوم 15 أغسطس 2021، وتتغير معها قواعد رقعة الشطرنج الدولية، وتموت معها أفكار ونظريات الأمريكيين الأربعة الكبار: دويت أيزنهاور وهنرى كيسنجر، وزبجنيو بريجنسكي، وريتشارد نيكسون، وما تلاهم من المقلدين: رونالد ريجان، وجورج بوش الأب والابن، وباراك أوباما، وجو بايدن.
تنتهى حقبة الحرب العالمية الثانية بعد 76 عامًا، وقد بدأت فى الأول من سبتمبر عام 1939، وحسب التأريخ التقليدى تتوقف عند الثانى من سبتمبر عام 1945، بينما الواقع الموثق يؤكد أن التاريخ الحقيقي ينتهي فعليا يوم الخامس عشر من أغسطس 2021 على جميع الجبهات، فإذا كانت حرب الدول والأمم استمرت ست سنوات بهزيمة ألمانيا وإيطاليا واليابان، فإن تداعياتها استمرت 70 عاما، حتى إعلان خروج أمريكا وحلف الناتو من أفغانستان.
حرب السنوات الست وضعت أوزارها بانتصار واضح ومعلن لدول الحلفاء بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وعضوية بريطانيا وفرنسا، والاتحاد السوفيتي، وهزيمة علنية لدول الحلفاء بقيادة ألمانيا النازية، وعضوية إيطاليا واليابان، والمنتصر يفرض الشروط بالطبع.
الولايات المتحدة الأمريكية كانت المنتصر الواضح الوحيد، بغض النظر عن انتصار حلفائها الروس والبريطانيين والفرنسيين، فقد خرجوا مصابين، اجتماعيا وثقافيا واقتصاديا، من المعارك الضارية، وتركوا مستعمراتهم العتيدة، باستثناء الروس، وقد تحولوا إلى قوة عظمى مفاجئة، ولذا كانوا كالمكمل الغذائى للحالة الأمريكية، فلم تمر فترة طويلة حتى سارعت إلى اتخاذهم عدوا، على نحو ما جرى فيما عرف بالحرب الباردة الثقافية، وقد انتهت تلك الحرب بفوز الأمريكيين عليهم فوزا ساحقا، وتفكيك إمبراطوريتهم مع بداية تسعينيات القرن الماضي.
إذن، كانت أمريكا هى المنتصر الواضح، وبالتالى كان لها السيطرة على المناخ السياسى العالمي، فدعت إلى إنشاء المنظمات الدولية المختلفة، وعلى رأسها الأمم المتحدة وتوابعها، ثم قامت باستضافتها على أراضيها، مبنى وموظفين، واختيار أمينها العام، ثم أنشأت وترأست حلف الناتو، وقامت بإعادة إعمار أوروبا عبر مشروع جورج مارشال، ثم أنشأت دولا لم تكن موجودة، وعملت على تشريع قوانين وتوقيع اتفاقيات تناسب مخططاتها الإستراتيجية، ثم أغراها الانتصار العالمى بخوض حروب طويلة: حرب الكوريتين، وفيتنام، وأفغانستان، والعراق، وزاد الإغراء إلى صناعة واختلاق ثورات، ونشر اضطرابات، ونزع سلطات وتمكين أخرى مناسبة، وصولا إلى إشعال وإطفاء حرائق سياسية على مستوى الكرة الأرضية.
هذا الإغراء ينتهى الآن
شخصيا، كتبت مئات المقالات عن حتمية هذه النهاية الطبيعة، نهاية فكرة الإمبراطورية، تلك الفكرة التى تمكنت من عقول وقلوب سياسيين أمريكيين، وتمكنت من توابعهم، فصاروا الأكثر إخلاصًا من الأمريكيين أنفسهم، فتجدهم يلطمون الخدود ويشقون الجيوب، ويذرفون الدموع.
الشعب الأمريكى العادى لا يعرف مثل هذه النظريات الداعية إلى إقامة إمبراطورية رومانية جديدة، فحين اكتشف المهاجرون الأوائل الأراضى الجديدة، حاولوا أن يعزلوا أنفسهم عن العالم القديم وراء المحيطين، ولم يكونوا راغبين فى الخروج فيما وراء البحار، وإذا خرجوا فإلى الفناء الخلفى، حيث قارة أمريكا اللاتينية، حسب مبدأ مونرو وكثيرًا ما استدعاه دونالد ترامب أثناء فترته الرئاسية، وكثيرًا ما كان يسخر من ترامب كبار الكتاب والمحللين فى صحافة واشنطن.
ويحدث الآن، يعود الأمريكيون إلى الديار، هذه المرة ليس كالعودة من اليابان، أو فرنسا، وإنجلترا، أو كوريا، أو فيتنام، إنما عودة، تنتهى معها نتائج الحرب العالمية الثانية.
علينا أن نفكر عميقا، فى اليوم التالى لهذا الخروج الأمريكى كيف سيكون؟ وهل يمكن أن تندلع حروب صغيرة مرتبة؟ فى عدم وجود” حكم دولي” كان يملك البطاقات الحمراء والصفراء، ويرفعها وقتما شاء فى وجه اللاعبين على المسرح الدولي؟ وكيف نمنع وقوع مثل هذه الحروب، فى ظل تفكير يدعو إلى انتشار مصانع الأسلحة الصغيرة عوضًا عن الأسلحة العملاقة؟
عودة الأمريكيين إلى الديار فرصة نادرة لإعادة ترتيب الذات، وفرصة سانحة لبناء قوة القلوب والعقول، وضرورة للحذر من ترتيب يتطاير فى الهواء، عن إشاعة فوضى ضارية أخطر مما يسمى بالربيع العربي.