المشهد أمامنا مقروء جلي شديد الوضوح لا تكاد تخطئه عين أو قريحة.. ثمة يد خفية تعيد تشكيل الحاضر والتاريخ، ولن نلبث في غضون عقود قلائل أن نستفيق على عالم مختلف وخريطة جيوسياسية أخرى يعاد فيها توزيع موازين القوى..
منذ مطلع القرن الحادى والعشرين والأحداث الجسام تتلاحق منذ سقوط برجي التجارة في أمريكا إلى سقوط بغداد ثم موجات من الثورة والتمرد، وإذا بنا أمام عروش تبدو كالهلام لا تستقر بحاكم، وشعوب كالبراغيث القلقة تنتخب حاكمًا شعبويًا كترامب ثم لا تلبث أن تبصقه وتطرده شر طردة!
يكفي أن نستقرئ المشهد الحالي المربك لنعلم إلى أي حد يبدو العالم مقبلًا على منعطفات حادة ومتغيرات هائلة وإعادة نحت للمنظومة العالمية بأسرها..
وقد بدأ الأمر بأزمة كورونا التي انهارت أمامها دول وانتعشت شركات كبرى من مستثمري الأزمات، وكانت النتيجة أن تقوقعت أمريكا وانغلقت على ذاتها وتمددت الصين وباتت أوروبا كشمطاء عجوز تتكئ على حليفتها أمريكا وكلتاهما تعانيان! وبالأمس القريب رأينا مشهدًا عجيبًا بات حديث العالم أجمع، ولا شك أن له ما بعده من تداعيات.. المشهد الأفغاني..
الصدمة الأفغانية
كانت صدمة مباغتة أصابت الجميع بالذهول..
سائر زعماء أوروبا كادت أعينهم تخرج من محاجرها وهم يتابعون المشهد الدراماتيكي العحيب: كابول تسقط لقمة سائغة في يد طالبان بين يوم وليلة، والرئيس الأفغاني يسارع بالفرار قبل أن يتبعه آلاف من ساكنى العاصمة الأفغانية الذين راحوا ينحشرون داخل طائرات باتت كأتوبيسات القاهرة وقت الذروة.
عشرات تساقطوا ولقوا حتفهم أمام عدسات كاميرات باردة لا ترحم ولا تتعاطف بل تراقب في جمود وانعدام حيلة.
لماذا وكيف انسحبت أمريكا؟ ولماذا تُركت طالبان لتغزو كل العواصم قبل انقضاضها على العاصمة الكبرى كابول، بينما الجميع اكتفى بالفرجة والمشاهدة وكأنهم يتابعون فيلمًا دراميًا أو مسرحية إغريقية أسطورية؟ هل هي صفقة بين أمريكا وطالبان؟! تساؤلات كثيرة بلا إجابة.
وليس أعجب من هذا المشهد إلا مَشاهد الارتياح الغريب التى أصابت الثلاثة الكبار: أمريكا وروسيا والصين! لقد شوهد بايدن بعدها وهو يتناول المثلجات، وروسيا والصين أعلنتا استعدادهما للتعامل مع طالبان بشروط واهية.
فلم يكن بيد أوروبا حيلة سوى الصمت الخائب الذليل، رأينا أنجيلا ميركل تكاد تولول وتنتحب وهى تقول باستسلام: إنها نهاية مأساوية وحزينة لحرب طالت لعشرين عامًا بلا طائل، وماكرون يستنكر بأشد العبارات ملقيا اللوم على أمريكا، وبريطانيا تحشد برلمانها ثم يعلن رئيس وزرائها في نهاية الجلسة الاستثنائية ألا داعي للمخاطرة بجنود بريطانيا في حرب طويلة مع طالبان.
ناهيك عن رؤساء أمريكا وسياسييها الذين استنكروا فعلة بايدن، كهيلاري كلينتون وجورج بوش ثم ترامب الذي دعا بايدن للاستقالة بسبب خزى الانسحاب من أفغانستان.
ثم إذا بنا أمام مشهد مضحك مبكي: جنود طالبان يستولون على أسلحة أمريكية بملايين الدولارات قبل أن ينصرفوا للهو واللعب بالملاهي وتناول المثلجات مثل بايدن!
وخرج علينا أحد ضباط المخابرات الروسية السابقون هو سيميون شانكين يفسر لنا السر في السرعة المذهلة التي استولت بها طالبان على مقاليد الحكم كاشفًا عن سلوكيات الأمريكيين المستهجنة تجاه الشعب الأفغاني مقابل شعبية واسعة تحظى بها طالبان، ما يعني أن انتصار طالبان تم بدعم شعبى!
البعض رأى في تلك الأحداث إنذارًا بأن الإرهاب سيجد ملاذًا آمنًا، وأن العالَم قد يدخل في حقبة جديدة من الحروب المهلكة تنطلق من هناك، لكن البعض الآخر يدعي أنها حيلة لخلق عدو دولي جديد بعد أن فنيت كل المنظمات الإرهابية وبات مطلوبًا من أمريكا أن تخلق عدوًا جديدًا.
لقد أكدت وكالة أسوشيتد بريس - على لسان أحد قادة طالبان - عزم الحركة الإعلان قريبًا عن قيام ما يدعى"إمارة أفغانستان الإسلامية"، فماذا عن القادم غدا؟
التاريخ ينكمش
لا شيء أكثر مرونة من الزمن؛ ينطوي وينثني وينفرد كما شاء.. اللحظة قد تمر كالدهر والعام كاللحظة، ولا أدل على ذلك من آخر عامين مرا على البشرية ببطء أولًا جراء حظر كورونا وانتظار طويل لفك الحظر، ثم إذا بنا أمام أحداث تتسارع وتنطلق كالصاروخ: سقوط ترامب وأفول نجم الرؤساء الشعبويين واليمينيين في الغرب وصعود بايدن الذي لحقه سقوط نتنياهو بعد موجات تطبيع واسعة مع إسرائيل، وإذا بالعالم في مواجهة إمارة إسلامية قادمة، وخطة شرق أوسط جديد توشك أن تتم.
العِقد الأخير شهد تسارعًا وانضغاطًا لحركة التاريخ كأنه لحن حزين متصل بآلة أكورديون تنضغط في عنف ثم ترتد في هدوء وروية بنغمات قلقة مرتعشة، وباتت الأيدي والألسنة عاجزة عن ملاحقة سلاسل من أحداث وكوارث ونكبات في كل بقعة من الجهات الأربعة، فإلى أين يتجه التاريخ؟
رقعة بلا أحجار
رقعة الشطرنج تغيرت وتكاثرَ لاعبوها..
كل يوم يظهر لاعب جديد كالصين وروسيا وإثيوبيا وإيران، يخطف من الرقعة قطعة؛ حتى يأتي اليوم الذي ستختفي فيه أحجار لعبة الشطرنج العالمية بعد أن يذهب كل لاعب بغنائمه.
لم تعد أمريكا كأمريكا الأمس، ولا أوروبا كأوروبا، بينما التنين الصينى يتمطع ويوشك أن يستيقظ مستهلا يقظته بنفثة لهب تلذع الأنداد!
العالم يتحدث عن سقوط وشيك للرأسمالية العالمية، وهناك من ينبش عن بديل للنظام العالمي الذي أثبت عدم جدواه خلال أزمة كورونا، وها نحن نرى أمريكا في ظل إدارة بايدن تنغلق على ذاتها وتهدي للصين وروسيا هدية اسمها أفغانستان.
إننا مقبلون بلا ريب على واقع سياسي عالمى جديد ومختلف، وعلينا أن ننتبه.
أين موقعنا في الخريطة؟
امتازت مصر على امتداد عمرها الحضاري برسوخها الجغرافي والسياسي والاقتصادي.. وبرغم ما تعاقب عليها من تحديات، وتكالب عليها من غزاة ظلت تقف وقفة أبي الهول في تحديه للزمن ونوائبه.
لم يكن سد النهضة هو التحدي الأول تجاه مصر، ولن يكون الأخير، إذ لا يوجد ما يستفز ملكات مصر وقدراتها كالتحديات التي تجتازها تباعًا لتعود أقوى مما كانت.
سوف نجتاز أزمة سد النهضة وغيرها من أزمات بفضل مالك الملكوت الذى حبا هذا البلد بحفظه وبركاته وعطاياه منذ قديم الأزل.
إن ما تتميز به مصر عن غيرها من بلدان أنها ذات جذور حضارية شديدة العمق والرسوخ بما يحافظ على موقعها ومكانتها وحدودها دون تغيير أو تبدل مهما تغير ما حولها.
غير أننا يجب أن نستقرئ الصورة المستقبلية لموازين القوى وآليات الصراع السياسي والمنعطفات التاريخية الحادة التي ستخلق في المستقبل واقعًا مختلفًا علينا أن نستعد له.
[email protected]