حتما ستلتقى أحدهم مصادفة وسط القاهرة، حيث مثلث المبدعين: أتيليه القاهرة، مقهى ريش، مقهى زهرة البستان، تتبادلان الحكايات، والكتب، والأفكار، تضربان موعدا للقاء.
شاء حظى أن يكونوا رفقة فى الطريق: محمد الفيتوري، جيلى عبد الرحمن، خديجة صفوت، عبد الله النعيم، أمير تاج السر، عبد الحميد البرنس، ويوسف الحبوب، مع حفظ الألقاب.
بعضهم كان رفيقا بضع سنين، وبعضهم كان لبضعة أيام أو أمسية يتيمة.
جاءوا من أقصى النهر الخالد يسعون إلى النور فى نهايات النهر، بعضهم عاش وتعلم فى الإسكندرية ليقترب من نهايات النهر عند رشيد ودمياط.
كان هذا هو محمد الفيتوري.
يا لها من مصادفة عظيمة، هكذا هتفت بينى وبين نفسي، هذا هو الشاعر محمد الفيتورى الذى كان مقررا عليّ فى المدرسة الثانوية، نتجول معا فى شارع الرشيد فى بغداد، قاصدين شارع المتنبي، حيث المكتبات العامرة بالجديد والقديم.
كان الفيتورى ملك الحكايات، لا أحد يستطيع المقاطعة حين يمسك بالميكروفون، لا أدرى لم «وزنى شيطانى» الماكر أن أتلو من الذاكرة قصيدة من ديوان «أباريق مهشمة» للشاعر العراقى عبد الوهاب البياتي، نظر إليّ بعينيه الحمراوين الجاحظتين، صارخا، لست بصاحبى بعد الآن، ولن أذهب إلى شارع المتنبي، ولا أريد أن أذهب إلى السلام على صاحبى القديم عبد العزيز القديفي، بائع الكتب الأشهر فى سوق السراى، نهاية شارع المتنبي، ثم استدار عائدا، حاولت إثناءه لكنه أبى، وتشدد.
مع الفيتورى لا يطول الأمر كثيرا، راح يبحث عنى مساء فى فندق «المليا منصور» ببغداد، كأن شيئا لم يكن، وهكذا دواليك بينى وبينه من مناوشات صغيرة، غضب، ثم لقاء، فغضب، فمحبة دائمة، وعندما كتب قصيدته العظيمة «إنها مصر» كان حريصا على أن أكون أول الشاهدين على اعترافه كعاشق وحيد للنيل.
وكان هذا هو جيلى عبد الرحمن.
على مقهى ريش ينتحى الشاعر محمد مهران السيد جانبا، بأصابعه الطويلة كعازف بيانو، يقبض على سيجارة مشتعلة، يضم قبضته الفارغة من السيجارة، ويقسم بستين شهرا فى الزنازين، لا يقول خمس سنوات، كان يريدك أن تشعر بأن حياته ناقصة 60 شهرا.
أساريره لا تنفرج إلا نادرا، لكنه فجأة وقع فى السرور المباغت، راح يهتف، وهو الهامس، إنه جيلي، جيلى عبد الرحمن، مرحبا بالمناضل جيلى المظلوم، جيلى عبد الرحمن، الأزهرى اليسارى النيلي.
كان محمد مهران السيد يرحب بالقادم، كأنه وجد كنزا منسيا، وهو يهتف: يا جيلى يا ابن أيامى وزنازيني، أين أنت؟! أخذتك البلاد البعيدة.
كان القادم يبتسم خجلا وتواضعا، يحمل وجها لوحته شمس جنوب الوادي، وترك الطمى على ملامحه بعضا من ألوانه الشبيهة بماء الفيضان، حين يعود النيل فتوة فى مواعيد مضروبة بين الأحبة.
تعلقت أنظار الجالسين بالقادم، صوت مهران السيد، يحمل شجى وشجنا قديمين بين رفاق الجدران المصمتة على الأحلام، كان القادم يوزع نظراته بعينين مغرورقتين بدموع فرحة، ثم اختار أن يقدم تحية جماعية، ويسحب كرسيا إلى جوار مهران السيد.
أمال رأسه ناحية مهران السيد: إنها النهاية يا مهران، عدت إلى أصلى القاهري، فإذا ودعت الحياة، فستكتمل الدائرة، قال، أشياء عن المرض والفشل الكلوي، كسرت إيقاع الجلسة الحزينة ببعض قصائده من مجموعة: أغانى الزاحفين، وهو ديوان شعر شارك فيه نجيب سرور، مجاهد عبد المنعم و كمال عمار.
تهللت أساريره، وصاح للنادل أن يحتسى شيئا من أيام الشباب، بضع ساعات كانت كافية ليحتل جيلى عبد الرحمن ركنا عظيما فى الذاكرة، ذلك المتجول بين الجزائر وعدن، وموسكو، الذى اختار القاهرة كمحطة أخيرة.
وتلك هى خديجة صفوت.
الباحثة الأكاديمية المرموقة فى جامعة أكسفورد البريطانية، وقد تشاركنا معا فى كتاب عنوانه «الإسلام السياسى ورأس المال الهارب ـ السودان نموذجاً»، وقد صدر عن دار سينا للنشر فى بداية التسعينيات، وحقا كانت مثالا على الأكاديمية الشجاعة، والباحثة الاستباقية التى كشفت ما سيجرى من جماعة حسن الترابي، وكان الوقت مبكرا.
وذلك هو أمير تاج السر، الشاعر الذى تعرفت إليه فى الثمانينيات، طالب الطب بجامعة طنطا، الروائى الشهير الآن، وكيف كان واحدا منا.
وذلك الدكتور عبد الله النعيم، الباحث المرموق، تلميذ الشيخ محمود محمد طه، حين نشرت له كتابه الأشهر «نحو تطوير التشريع الإسلامي»، وكيف كان يمتلك ناصية المعرفة، والقوة الفكرية، ويقدم الجديد على مستوى الفكر العالمي.
أما عبد الحميد البرنس، فأنا فخور بأن يكون ابن أيامي، وقد نشرت له أولى قصصه فى القاهرة، وكذلك كانت جلسة عابرة مع الشاعر يوسف الحبوب، حين عرفنى إليه الشاعر العراقى الكبير أمجد محمد سعيد ذات أمسية، ويوسف أحد أعمدة المؤمنين بأمة العرب الواحدة.
وهنا القاهرة.. هنا الخرطوم.