هل أصابك الحزن وعانيت من قبضة النفس وضيق الصدر، هل كنت واحدًا ممن سألوا أنفسهم عن الحكمة وراء "الابتلاء"، هل قلت "لماذا أنا "فلست بأشر الناس ولست بخيرهم، هل توقفت وفكرت واحترت؟ إذا حدث ذلك فلا تتعجب فلست وحدك، واطمئن أنك لم تفقد بعد إنسانيتك ولا إيمانك، هو سؤال مشروع، أجاب عنه بصورة مختلفة سيدنا الخضر لسيدنا موسى في سورة الكهف عندما طلب مصاحبته ليتعلم عن سر حكمته فأجابه: "وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا "(68).
فليس بيننا نبي بل كلنا عبيد لله إحسانًا وابتلاء بأشكال وتوقيتات مختلفة، ولا سبيل إلى النجاة إلا الإبحار من أنهار الأحزان إلى محيط الأمل في النجاة، فحتى بالبحث عن معنى هذا "الابتلاء" لغويًا وعن الحكمة من المعنى إيمانيًا، نجد أن أصلها "بلاء" هو اسمٌ تجتمع فيه معاني شدّة الأمورِ ومصاعبِ الحياة، فتتعدَّدُ أشكالهُ وصورهُ ما بين مَرَضٍ، أو همٍّ، أو غمٍّ، فتجد في الشروح أن الابتلاء يُنزلِه الله -عزَّ وجلَّ- بالخلقِ ليختبر به إيمانهم وصبرهم ثم يُكفّرُ به عنهم سيئاتهم، فيرتبط فيه معاني الحزن بالفرح، فإن لم تكتب لنا النجاة في الدنيا فأملنا في رصيد يضاف في الآخرة، حط سيئات ورفع درجات.
ولايزال تساؤل سيدنا موسي وإجابة سيدنا الخضر سارية ليومنا هذا، فكيف نصبر بينما يمر علينا أحد معاني الابتلاء في صور المحن المختلفة، خاصة في زمن عانينا فيه من فتن وحروب وصراعات فككت أسرًا كاملة بل هددت دولًا قاطبة، وصولًا إلى انتشار هذا الوباء القاتل في كافة أنحاء العالم، فتقطعت بالناس السبل وعزل العجائز والأطفال، وتوقفت أعمال الكثيرين وفقد آخرون أحبة بفراق قاس حتى بلا وداع، أمور دفعت لعقلي ذات الأسئلة التي طالما بحثت عن إجابة لها: ولماذا يبتلينا الله؟
أسئلة وجودية لم أصل لإجابات قاطعة لها، لكن وجدت اجتهادات كثيرة يكررها علينا الأصدقاء بحكمة نتداولها أن (المؤمن دايما مصاب )، ووجدت يقينًا في قوله تعالى: "أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ" (العنكبوت، الآيتان 1 و2).
ورغم علمي أن سنة الله في الحياة الدنيا قد جرت أن تبنى على الابتلاء منذ أول البشر سيدنا آدم، فخروجه من الجنة إلى الأرض مع أمنا حواء أصلًا هو ابتلاء، فالإنسان يبتلى في دينه، ويبتلى في ماله، ويبتلى في أهله، فهذه الابتلاءات هي امتحانات يمتحن الله بها عباده، ليميز الخبيث من الطيب، وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين، لكن كيف إذن النجاة؟
فشخصيًا لا أستطيع أن أمنع نفسي من الحزن عند الابتلاء، وكنت أقرأ بعضًا من كلمات الشيخ عائض القرني في كتابه الشهير"لا تحزن" فأتعجب منها ولا أشعر بأثرها في نفسي، فربما أفهم وجوب عدم الجزع واليأس وهو المقصود الأهم في كتابه الذي تجاوز توزيعه ١٠ ملايين نسخة، لكن شعور "الحزن" لا أستطيع منعه فهو إحساس فطري آدمي، يشي بوجود مشاعر صحية ومن فقدها تحول لآلة صناعية، ولا يتعارض عندي مع كامل الإيمان بقضاء الله وقدره.
وعندها بحثت لماذا يبتلي المؤمن تحديدًا وقد أسلم أموره جميعها لوجه الله الواحد الأحد، فوجدت إجابة بالحديث الشريف، عن مصعب بن سعد رحمه الله، عن أبيه رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله، أيُّ الناس أشَدُّ بلاء؟ قال: "الأنبياءُ، ثم الأمثلُ فالأمثلُ. يُبْتَلَي الرَّجُلُ على حَسْبِ دِينه، فإن كان دِينُهُ صُلْبا اشتَدَّ بلاؤه، وإن كان في دِينه رِقَّة على حَسبِ دِينه، فما يَبْرَحُ البلاءُ بالعبد حتي يتركَهُ يَمْشِي على الأرض وما عليه خطيئة" (أخرجه الترمذي). ويقول المصطفى: "أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون. لقد كان أحدهم يُبتلى بالفقر حتى ما يجدُ إلا العباءة يجوبها، فيلبسها؛ ويُبتلى بالقمَّل حتي يقتلُه، ولأحدهم كان أشدَّ فرحاَ بالبلاءِ من أحدكم بالعطاء" (أخرجه الحاكم في مستدركه).
وعاودني سؤال ملح، مع الإيمان أنه لا ملجأ إلا لله فندعوه فلا تأتي الإجابة بما نطلب فهل عقاب على تقصير منا؟ فوجدت الرد في آية بالإنجيل:
لَا يَتَبَاطَأُ ٱلرَّبُّ عَنْ وَعْدِهِ كَمَا يَحْسِبُ قَوْمٌ ٱلتَّبَاطُؤَ، لَكِنَّهُ يَتَأَنَّي عَلَيْنَا، وَهُوَ لَا يَشَاءُ أَنْ يَهْلِكَ أُنَاسٌ، بَلْ أَنْ يُقْبِلَ ٱلْجَمِيعُ إلى ٱلتَّوْبَةِ.
وهو القائل سبحانه في سورة البقرة "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ"، وعدنا الله بالاستجابة لكن تظل أدواتها غير معلومة لنا فقد يستجيب بمنع ما تخيلته خيرًا، ويستجيب برفع درجات ومضاعفة الثواب..
أما كيف يرفع البلاء؟ فليس علينا إذن إلا السعي للنجاة بكل السبل مع كامل التسليم لحكم الله، شخصيًا قررت الامتثال تماما وإن لم أحط خبرًا، وأخذت بالأسباب الماديَّة التي تتسني لي أدواتها بالسعي بوسائل العلاجِ أو التَّداوي، والشروع في إيجاد الحلول للمشكلاتِ والمُعضلاتِ، ولجأت اليها بقلب مؤمن متوكل صابر، مستغفر ومستغيث..
وعلمت وقتها أن الابتلاء لحكمة عنده ربما لا تتجلى لنا، لكن الأكيد أنه "لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ" كما جاء في سورة النجم الآية ٥٨، فقررت الفرار إلى الله.
وكما قال عمر بن الخطاب عندما سأله أبو عبيدة بن الجراح عن قرار عدم التوجه للشام لوجود وباء: أفرار هو من قدر الله؟ فقال عمر: نعم «نَفِر من قَدَر الله إلى قدر الله».