تستقبل الحياة يوميًا الكثيرون ويرحل عنها الكثيرون أيضًا، ويفوز القليلون بالحياة الحقيقية، ومنهم محمد علي كلاي، وقد يتبادر للذهن أن الحياة الحقيقية تعني النجاح الباهر والشهرة والأموال؛ والمؤكد أن هناك الكثيرين الذين "امتلكوا" ذلك ولكنهم لم يقتربوا من الحياة الحقيقية والتي تتجاوز ذلك إلى عيش حياة "تشبه" صاحبها ويحقق فيها أهدافه ويدافع عن مبادئه بشجاعة ولا يتنازل عنها، ويحول أحلامه لواقع، وكما قال كلاي: ما يجعلني أستمر هو أهدافي، والذي لا يحلم ليست لديه أجنحة..
ولد في 17 يناير 1942 في ولاية كنتاكي بأمريكا، وتوفي 3 يونيو 2016 وما بينهما عاش حياة حافلة.. وكان يصف نفسه بأنه يطير كالفراشة ويلسع كالنحلة؛ وصدق في وصفه، فكان يطير لتحقيق أحلامه ويلسع من يحاول النيل منه.
كان اسمه كاسيوس مارسيلوس كلاي وعمل أبوه خطاطًا وعاني من العنصرية في صغره، بدأ الملاكمة وهو في الثانية عشرة من عمره وبعد شهر ونصف من التدريب فاز في أول مباراة له وواصل "صناعة" نجاحه ومفتاحها قوله: كرهت كل لحظة من التدريب ولكنني كنت أقول لا تستسلم "اتعب" الآن ثم عش بطلًا باقي حياتك.
عاش كلاي مخلصًا لما يراه صوابًا وتحمل برضا دفع ثمن مواقفه ومنها تجريده من لقب بطل العالم، وحرمانه من السفر لخارج أمريكا، ومنعه من الملاكمة لمدة أربع سنوات؛ لرفضه المشاركة في حرب فيتنام، وأعلن وقتئذ أنه لن يساعد في قتل وحرق أمة عاجزة لاستمرار سيادة البيض على المجتمع الأسود حول العالم، ولن يشارك في معركة لا يؤمن بها، ورفضها لأنها ضد تعاليم الإسلام؛ لأنها ليست في سبيل الله.
ناهض العنصرية في العالم كما تصدى لها بشجاعة في بلده، واهتم بالدفاع عن قضايا المسلمين السود، وأصبح الزعيم الروحي لملايين السود في العالم وللمؤمنين بالمساواة بين البشر.
تعرض أثناء التدريب للعودة للملاكمة لضربة أصابت أحد ضلوعه بأذٍ كبير؛ ولكنه رفض تأجيل مباراة العودة ولم يهدر هذه الفرصة خوفًا من ضياعها وفاز بها، وكيف لا يفعل؟ وهو القائل: من لا يجرؤ على المخاطرة لن يحقق شيئًا في حياته.
زرع في عقله أن يكون الأفضل حتى تحولت لحقيقة بمثابرته، يقول كلاي أنا الأفضل؛ كنت أقولها حتى قبل أن أعلم أني كذلك، والتكرار يؤدي للاعتقاد ثم يتحول لقناعة تبدأ بالتحقق.
واستحق أن يكون الأفضل؛ فهو الوحيد الذي فاز ببطولة العالم للوزن الثقيل ثلاث مرات، وتصدر الملاكمة 20 عامًا فاز فيها في 56 مباراة من بينها 37 مباراة بالضربة القاضية، وهزم في خمس مباريات فقط..
وفي عام 1964 أعلن إسلامه وغير اسمه من كاسياس إلى محمد علي؛ محمد كاسم النبي "صلى الله عليه وسلم" وعلي كاسم الأمام علي كرم الله وجهه، وواجه المجتمع بهويته الجديدة، ورفض المساس بكرامته؛ فقد تعمد ملاكم إيرني يدعى تيريل - وهو من أصعب المنافسين له - إهانته وتعمد تكرار مناداته باسمه القديم لمضايقته، وأعلن عن رغبته بتعذيبه بالضربة القاضية، ورفض كلاي إهانه تيريل له قائلًا: أرفض المساس بديني وباسمي، وهدده بمعاقبته وإجباره لينطق اسمه الحقيقي داخل الحلبة، إن لم ينطق به خارجها، ونفذ تهديده وهو المدافع بشدة عن كرامته.
والقائل: لو فكرت في الأحلام أنك تضربني فعندما تستيقظ من حلمك يجب أن تعتذر لي.
وفي المباراة مع تيريل صاح وهو يضربه والدماء تسيل على وجه تيريل: ما هو اسمي؟.. ولم يناضل كلاي فقط من أجل كرامته الشخصية ولا ضد العنصرية فقط، واهتم بحقوق الإنسان، وكان لديه فهم عميق للحياة؛ فقال: لدينا حياة واحدة وعما قريب سنصبح من الماضي، وما نعمله لله هو الذي سيبقى.
تعرض لمتاعب صحية كثيرة أثناء مبارياته وتحملها بشجاعة، وكان يردد: الناس تموت يوميًا، والملاكمون بعضهم يموت وبعضهم يتعرضون للأذى، والبعض يمضي في طريقه فقط، فلا تفكر وامض في تحقيق هدفك، والرجل هو من يعرف أنه مغلوب، ويستطيع الغوص في أعماق روحه، ويستخرج منها قوة إضافية ليفوز، وفي المباراة ليست هناك متعة في القتال، ولكن المتعة تكمن في الفوز.
حصل على أوسمة عديدة منها وسام الحرية الرئاسي، وهو أهم وسام مدني في أمريكا، واختير أهم رياضي في القرن العشرين، وأفضل ملاكم في التاريخ وصاحب أقوى وأسرع لكمة في العالم؛ وصلت سرعتها إلى 900 كم في الساعة وكان يتحمل اللكمات بشجاعة.
خسر لقبه ثم استعاده مرتين، وفي المرة الثالثة استعاده وهو في السادسة والثلاثين من عمره، وحقق قناعته بأن العمر هو ما تعتقده أنت.. عمرك كما تراه أنت في نفسك.
كانت لمحمد علي كلاي هوايات غريبة مثل ممارسة ألعاب سحرية تعتمد على السرعة وخفة اليد، وكان بارعًا فيها ويقدمها لأصحابه، وكتب الشعر واستخدمه في الهجوم على خصومه وفي الدعاية لنفسه..
لم يكن مثاليًا وبلا أخطاء؛ فلا أحد كذلك؛ ولكنه كان إيجابيًا منذ صغره فعندما سرقت دراجته وهو طفل لم يكتف بالحزن وأبلغ بنفسه الشرطة، وعندما أصيب بالمرض حافظ على معنوياته وعلى روح الدعابة ولم يسمح للمرض أو لصعوبات الحياة بالنيل منه.