كلنا تعرضنا للتحريض بأوقات وبطرق مختلفة، وأحيانًا ممن كنا نثق بهم ولم نتوقع منهم إيذاءنا، وربما رفضنا بقوة وبحدة من حذرنا منهم واتهمناهم بالغيرة، ثم ثبت أنهم لم يستحقوها..
يهدف التحريض لتحريك الغضب من معاناتنا بعيدًا عن مصلحتنا وإفقادنا البوصلة والسيطرة التامة علينا وحرماننا من التفكير بهدوء، ودفعنا للتسرع "لسرقة" قدرتنا على قراءة الأحداث جيدًا لنصنع خسائرنا بأنفسنا؛ ثم نندم لاحقًا وندفع الفواتير وحدنا..
يحدث بالادعاء بالخوف على مصالحنا وأحيانًا بالتلويح بأن هناك خطرًا سيؤذينا أو بكلام يمس الكرامة وقد يتم بجرعات صغيرة ولكنها متتالية، أو يكون مصحوبًا بكلمات مثل ترددت كثيرًا حتى لا أقول لك هذا الكلام ولم أستطع ألا أقوله أو ضميري منعني من السكوت.
وقد يضيف كلمات مسمومة مثل بإمكانك التظاهر بأنك لم تعرف أو كيف يحدث لك هذا؟! فيدفعنا لسرعة التصرف لحماية النفس من الظهور بمظهر المتكاسل عن حماية كرامته أو الخائف..
يوجد بكثرة بالواقع وعبر وسائل التواصل الاجتماعي ومن كل الأعمار؛ كالتحريض على الإهمال والتعامل بحدة بالعمل وتحريض على الاعتناء بالأبناء واعتبارهم أعباء "وتضخيم" الدور الطبيعي للآباء وللأمهات وكأنه تضحيات "قاسية"؛ وتناسي أن الأبناء لم يفرضوا أنفسهم على الأهل وأنهم من اختاروا إنجابهم وليتحملوا مسئولية اختياراتهم، ولا نعني تحمل سوء الأدب من الأبناء، ولكن القيام بالمسئوليات بلا تبرم ولا مبالغات.
والتحريض ضد الرجال بشكل غير مسبوق وتصوير النساء وكأنهن ملائكة أو ضحايا للرجال دائما وتجاهل أن كلًا من الجنسين له ما له وعليه ما عليه..
لنتعلم مما حدث للأميرة ديانا التي دفعت ثمنًا باهظًا هي ونجلاها وزوجها - عندئذ - الأمير تشارلز والعائلة المالكة ببريطانيا "لرضوخها" للتحريض الخبيث والمتقن من مذيع للهيئة البريطانية البي بي سي؛ فقد كشف أخوها - مؤخرًا - أن المذيع الذي تقرب له وقدم له مستندات - ثبت أنها مزورة - تؤكد خيانة أحد موظفيه له فاكتسب ثقته به..
ثم قدم لديانا قصصًا كاذبة عن العائلة المالكة "مستغلًا" غضبها من تشارلز لخيانته لها، ولعجزها عن طرد كاميلا من حياته وخسرانها لرهانها على جمالها لإبعاده عنها؛ وتناسيها أنها تزوجته وهي تعلم بالعلاقة التي لا نبررها ونرفضها، وأنه لا أحد يغير سوى نفسه وبعد جهد ومثابرة وأن الجمال وحده لا يكفل نجاح الزواج، فلابد من التقارب بالاهتمامات والتفاهم وهو ما غاب عن زواجها بتشارلز..
أعلن شقيق ديانا أن ملاحقة المذيع لديانا بالحكايات المزيفة عن كراهية العائلة المالكة أفقدها ثقتها بهم، وتوهمت تآمرهم عليها "وألغت" عقلها وسمحت للرغبة بالانتقام والتشهير بزوجها وبالعائلة المالكة بالسيطرة؛ ووافقت على طلب المذيع على إجراء المقابلة التليفزيونية الشهيرة في عام 1995، والتي اعترفت فيها بخيانتها لزوجها وأساءت لتشارلز؛ وقالت إنه لا يستطيع التفكير بنفسه كملك، وأشارت لعلاقته بكاميلا، وأنها تشعر بسبب ذلك بأنها بلا قيمة..
كما أعلنت عن إصابتها بمرض الشره الذي يجعلها تتعمد القيء بعد تناول الطعام لمنع زيادة الوزن، وأفشت لأول مرة الكثير من الأسرار عن العائلة الملكية، وأفسدت علاقتها بتشارلز وفقدت تعاطف الملكة وزوجها الأمير فيليب ومحاولاتهما لمساعدتها على إنجاح زواجها، وتسببت بإيذاء نفسها "وتعرية" نقاط ضعفها أمام الملأ؛ مما ساعد بالتأكيد على استغلالها عاطفيًا ممن أقامت معهم علاقات عاطفية بعد ذلك، فقد عرفوا جيدًا كيف ينفذون إليها من خلال الثغرات التي قدمتها في هذا اللقاء.
كانت ديانا مثالًا للخضوع للمثل الشهير: الزن على الودان أشد من السحر؛ ونضيف للمثل أن هذا لمن يرغب بمواصلة الاستماع؛ فلا شك أن الأميرة كانت غاضبة من الأسرة ككل وربما حملتهم جزءًا من استمرار علاقة تشارلز بكاميلا، وكأنه طفل يمكن إرغامه على تركها؛ لذا كانت ترغب في تصديق وجود مؤامرة عليها ربما لتعفي نفسها من دورها في انهيار زواجها، ولا ينهار زواج إلا بوجود دور ما لكل طرف؛ ولو كان سوء الاختيار أو التعجل بالزواج أو توهم أنه سيغير شريكه بعد الزواج..
ومن السخف قول المذيع الذي أجرى هذه المقابلة بعد "فضحه" واضطراره للاستقالة أنه لم يقصد إيذاء ديانا وهو ما يقوله كل محرض؛ وكأنه يقول قبول التحريض مسئولية كل من يقبله ويبرئ نفسه..
والمؤكد أن المحرض - أيًا كان التحريض - سيئًا وليس بريئًا، والمؤكد أيضًا أننا جميعًا مطالبون بالانتباه؛ فالبعض قد يحرضنا ضد شركاء الحياة أو الأبناء أو زملاء العمل بحسن نية بهدف إظهار التعاطف معنا أو مجاملتنا أو خوفًا من اتهامنا بالخطأ والجميع يخطئ ويصيب ولا أحد معصوم منه، ومن يحبنا - بصدق - ويحترم أعمارنا ينبهنا للخطأ..
ومن واجبنا على أنفسنا عند "الفضفضة" مع أي إنسان - مهما قرب - اليقظة والتوقف بعد الكلام عما يؤلمنا فلو وجدنا أنفسنا بحالة زائدة من الغضب والانفعال تفوق بداية الكلام فلنسارع بتهدئة النفس، وتأجيل رد الفعل منعًا للخسائر وتجنب الكلام معه عن مشاكلنا؛ لافتقاره للخبرة أو للأمانة، أو لأنه مجامل كالدبة التي تقتل صاحبها.