عصر ما بعد الحداثة وسيطرة وسائل الاتصال الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي ورفض النظريات الشمولية الكبرى في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ مما يستدعي إعادة النظر فيما كان يعتقد في الماضي أنه حقائق، ومنها الحضارة الغربية بوجه عام والولايات المتحدة الأمريكية كرمز لهذه الحضارة بوجه خاص.
لقد ظهرت بوادر التراجع والانكماش لغروب شمس هذه الحضارة، وبدأت من داخل أمريكا نفسها؛ حيث يذكر المفكر الأمريكي "باتريك جيه بوكانن"، وكان يعمل مستشارًا لثلاثة رؤساء أمريكان سابقًا وكاتبًا سياسيًا في أكبر الصحف الأمريكية، وله العديد من الكتب الشهيرة، ذكر في كتابه "موت الغرب" أن الحضارة الغربية في طريقها المحتوم للانهيار لسببين: الأول موت أخلاقي بسبب انهيار القيم الأسرية والتربوية، والسبب الثاني موت ديموجراف أو بيولوجي نتيجة موت الأخلاق وتراجع القيم الدينية والأسرية.
مما أدى لتناقص السكان بشكل خطير، وأصبحت معظم الدول الغربية الآن تعاني تراجعًا كبيرًا في عدد السكان وانتشار الشيخوخة؛ نتيجة انهيار القيم الدينية والأسرية.
ويضيف أن موت الغرب مسألة وقت؛ لأن المرض خطير ومن داخل المجتمعات الغربية ويتعاظم، والمرض من صنع أيدينا وأفكارنا وليس بسبب خارجي، وهذا المرض ينهش بقوة في شباب الأمة؛ حيث انخفضت بشدة نسبة الزواج ونسبة خصوبة المرأة الغربية مع الحرية الجنسية وانتشار المثلية، وتراجع القيم الدينية والأسرية.
حيث يتوقع انخفاض عدد سكان أوروبا مثلا من نحو 728 مليون نسمة في بداية هذا القرن إلى نحو 207 ملايين نسمة في نهاية القرن، والسبب يتضح في الآتي:
زادت عمليات الإجهاض في أمريكا من ستة آلاف حالة عام 1966 إلى ستمائة ألف حالة عام 76 في عشر سنوات بعد السماح بالإجهاض قانونيًا، ثم ارتفع الرقم إلى أكثر من عشرة ملايين حالة عام 1986 والآن أصبحت نسبة الأطفال غير الشرعيين في أمريكا نحو 25% من جملة الأطفال هل بعد هذا انهيار وانحطاط كل ما سبق رؤية عالم أمريكي معاصر، ونحن معه في هذا الانهيار الداخلي ولكني أضيف إلى ما هو أبعد من أقواله.
حيث إن الحضارة الغربية أساسًا قامت على قيم غير أخلاقية، وعلى نهب ثروات الغير بداية التخلص من أصحاب البلاد الأصليين في أمريكا إلى استغلال ونهب ثروات العالم الثالث ببخس الأسعار؛ مثل البترول الذي كان ثمنه قبل حرب أكتوبر نحو 2 دولار فقط، ثم ارتفع في سنوات قليلة إلى أكثر من عشرين ضعفًا ثم من الدولة التي استخدمت السلاح النووي في ضرب اليابان لمجرد خسارة موقعة عسكرية؟ ومن الذي اضطهد الزنوج وزرع العنصرية البغيضة داخل بلاده؟ ومن الذي ذرع إسرائيل؟ أي قيم قامت عليها هذه الحضارة قديمًا أو حديثًا؟ هذه أعمالكم وبضاعتاكم ردت إليكم، ويمكرون ويمكر الله، ومن أعمالكم سلطت عليكم.
حضارتكم الزائفة القائمة على تجارة السلاح وإقامة الحروب انهارت من داخلها كنتيجة طبيعية لقيامها على الظلم والنهب والاستغلال والنووي وتجارة السلاح، وسوف تسرع التكنولوجيا الحديثة من انهياركم؛ لصعوبة استمرار الأكاذيب وانتشار زيجات الروبوت، التي يتوقع علماء إنجليز أن تصل إلى نحو 50% من الزيجات عام 2030.
كما أن المؤشرات الاقتصادية تؤكد ذلك الانهيار؛ حيث بلغ متوسط معدلات النمو الاقتصادي خلال السنوات العشر الأخيرة في أمريكا ومعظم الدول الغربية ما بين 2% إلى 1% فقط، مقابل نحو 8% للصين، وأعتقد أنه إذا تم استبعاد صفقات الأسلحة التي تتم وفقًا لضغوط سياسية سيكون النمو بالسالب، ثم إن المبادئ الأساسية للنظام الرأسمالي الغربي قد سقطت بوضوح مع أزمة الرهن العقاري في بداية هذا القرن؛ حيث تدخلت الدول الرأسمالية لوقف الانهيار.
وقالها ساركوزي صراحة رئيس وزراء فرنسا هذه نهاية الرأسمالية، وعندما قال ترامب في حديثة للصين سنفرض ضرائب على المنتج الصيني والأوروبي، وليس هناك الآن حرية السوق؛ لأن أمريكا تريد عدالة السوق، ثم عندما أمم ترامب شركة جنرال موتورز، وجميع الشركات العاملة في مجال أزمة كورونا تأميمًا مؤقتًا لحين انتهاء الأزمة.
ولذلك يؤكد عبدالفتاح الجبالي الخبير الاقتصادي أن حرية السوق وسيلة لنهب ثروات العالم الثالث، ويؤيد ذلك جلال أمين أن حرية السوق وسيلة لسيطرة الشركات متعددة الجنسيات على اقتصاديات العالم الثالث، ثم أخيرًا مقولة هنري كسينجر العام الماضي في حديثه عن أزمة كورونا قائلًا: إن أمريكا تواجه موقفًا مصيريًا، وعليها أن تثبت للشعب أن النظام الرأسمالي قوي وقادر على تخطي أزمة كورونا في مواجهة الصين؛ لكسب ثقة الشعوب في الرأسمالية، وإلا سوف يسقط النظام بأكمله.
والآن بعد أكثر من عام لقد فشلت أمريكا في مواجهة كورونا؛ حيث نجحت الصين بشكل كبير في السيطرة على المحنة، مقابل آلاف الحالات في أمريكا؛ أي الحضارة الغربية تلفظ أنفاسها الأخيرة، وهذا مؤشر ثانٍ على انهيار إسرائيل لأنها صناعة غربية.
وعلينا أن نعي ونفهم وألا ننجرف في محاكاة وتقليد هذه الحضارة، والتمسك بالدين والقيم الأسرية والوحدة والتكامل؛ لإقامة حضارة عربية جديدة تقوم على أسس أخلاقية ومستوحاة من الأديان السماوية، وأن التكامل العربي هو سبيلنا الوحيد للعودة لقمة الحضارة قريبًا إن شاء الله.
وللحق حققت الصين منجزات اقتصادية واجتماعية مذهلة في العقود الأخيرة؛ مما يمهد لها الطريق لحضارة كبرى بشرط تسامحها واعترافها بالأديان السماوية كقاعدة أساسية لقيام أي نهضة شاملة وقوية.. الله الموفق.