منذ فترة طويلة يلح علىّ كتابة هذا المقال؛ ولكني ظللت أحاول تأجيله مرات كثيرة؛ إلى أن حدث ما سأرويه؛ فوجدت نفسي أكتب تلك الكلمات.
كان طالبًا متفوقًا في العام الدراسي النهائي لإحدى أهم الكليات العملية بالجامعة العريقة؛ كان يرسم بخياله كل الطموحات الممكنة وحتى الصعبة؛ كان يرى الطريق أمامه جميلة ومزينة بالورد؛ برغم ما يمر به دومًا من معاناة قد لا يحتملها بشر؛ لكنه الإصرار على العمل والمثابرة على السعي؛ والحرص على مواصلته مهما كانت العقبات.
وكلما مر بمعوق؛ كان سريعًا ما يعمل على إزالته؛ فقد كان الأمل في تحقيق حلم التخرج أكبر من كل شيء؛ ولحظة التخرج كانت تعني بالنسبة له بداية جديدة لتحقيق ذاته بنفسه دون اعتماد على أحد.
فأين المشكلة؟
مات هذا الشاب الجميل وهو في ريعان الشباب؛ وحمله أهله لمثواه الأخير؛ ودفنوه مع أحلامه ودفنوا معه كل أفراحهم و"شقى عمرهم" ذهب في لحظة إلى غير رجعة؛ نعم إنه في معية الرحمن الرحيم؛ ولكن فراقه مر بدرجة غير محتملة؛ لقد رحلت البهجة والسعادة بغير رجعة.
أما سبب الوفاة فكانت نتيجة الدخول في غيبوبة مفاجئة؛ بسبب الذهول الذي أصابه فور مشاهدته امتحان أحد مواد التيرم الأخير في كليته؛ ولأن درجاته كانت تؤهله لتقدير ممتاز؛ صدمه ذلك الامتحان وأصابته الصدمة بغيبوبة نتيجة صعوبته غير المعقولة.
قد يقول قارئ؛ هل تلقي باللوم على الامتحان؛ ومن ثم على واضعه؟
فأرد عليه بنعم؛ لماذا الإجابة بنعم؟
لأنني استمعت في أحد الأيام لحوار بعض طلاب الجامعة؛ وهم يقولون إن أحد أساتذتهم تباهى أمام أقرانه بأنه وضع لطلابه امتحانًا يصعب عليهم - الأقران - حله؛ فما بالك بالطلاب!
فإذا بي أتذكر ذلك الحوار؛ بعد معرفة نبأ الوفاة؛ نعم تعددت الأسباب والموت واحد؛ ولكن ليعلم واضع هذا الامتحان أنك كنت سبب الوفاة؛ جعلك الله سببًا للوفاة؛ قد يكون الامتحان هو الآلية الوحيدة لتقييم الطالب؛ ومن المهم تدرج الأسئلة من ناحية الصعوبة لتمييز المتفوق؛ ولكن أن يكون الامتحان وضع من باب تعقيد الطلاب؛ فهو العجيب والغريب.
في بلدنا؛ الأستاذ الجامعي؛ لا معقب على درجاته؛ ولا يجوز مناقشته أو مراجعته؛ تلك الميزة أعلى درجات السلطة؛ فحكم القضاء يمكن مراجعته عبر وسائل نص عليها القانون؛ من خلال مرحلة الاستئناف وكذلك مرحلة النقض.
أما امتحان المادة ومراجعة نظام الدرجات من صلب اختصاص أستاذها؛ لا يمكن المراجعة وراءه؛ حتى أصبح بعض الأساتذة يرى نفسه كأنه "إله"؛ أعلم أن كلامي صعب؛ ولي كثير من أساتذة الجامعات من الأصدقاء الأعزاء؛ أحسبهم جميعًا من الأفاضل علمًا وسلوكًا.
وهم آباء قبل أن يكونوا أساتذة؛ ولكني أتحدث عن بعض من الأساتذة؛ تجبروا وتعالوا على الطلاب بشكل محزن ومؤلم؛ وتناسوا؛ أن مقاصة الحقوق في الدنيا أخف وأفضل آلاف المرات منها أمام الرحمن؛ وقتها لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتي الله بقلب سليم.
"آلهة الأرض" رحمة بالطلاب؛ فهم أمل الحياة وجمالها؛ وبهجتها وهم مستقبل الأمة؛ إذا حفظناهم حفظنا الوطن؛ وإن تعالينا عليهم وكدرناهم؛ فقدنا الكثير الذي يستحيل تعويضه.
مات الشاب الجميل، وهو في قبره الآن بين يدي ربه سبحانه وتعالى؛ فإذا كان سبب الوفاة الامتحان، ومن ثم واضعه؛ فحسابه أيضًا عند ربه؛ لن يستطيع تعويضه بأي شكل.
ونصيحتي للسادة الأساتذة كنتم طلابًا في أحد الأيام قبل أن تضحوا على ما أنتم عليه؛ فإن كنتم تعاملون الله في عباده فأجركم عظيم؛ وإن كنتم تتعالون على عباده ومن ثم عليه؛ فأيضًا حسابكم عظيم؛ لأن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب.
[email protected]