فى الجلسة التاريخية لنواب الأمة يوم 16 أكتوبر 1973، قال الرئيس السادات فى خطاب النصر: «إن التاريخ العسكرى سوف يتوقف طويلًا، بالفحص، والدرس، أمام عملية يوم السادس من أكتوبر سنة 73، حين تمكنت القوات المسلحة المصرية من اقتحام مانع قناة السويس الصعب، واجتياح خط بارليف المنيع، وإقامة رءوس جسور لها على الضفة الشرقية من القناة، بعد أن أفقدت العدو توازنه، كما قلت، فى ست ساعات».
تلك الفقرة المهمة من ذلك الخطاب التاريخى، هى سر من أسرار عظمة وقوة هذا الشعب. هى جزء أصيل يصف قدرة المصريين على خوض الصعب وقبول التحديات، التى تفرضها الظروف السياسية والجغرافية.
على مر التاريخ الحديث والقديم، كانت مصر، وما زالت، مطمعًا، نظرًا لموقعها المحورى، وثرواتها وخيرها المتدفق لكل من حولها. تلك الأمة التى ترحب بأى قادم، الذى سرعان ما ينخرط فيها ويصبح واحدًا من أهلها. تلك الأمة، التى تماسكت عبر الأزمنة، ولم تفرق بين مواطن وآخر بسبب ديانة أو لون.
ذلك هو السر فى العظمة، لكن السر الأكبر فى الشموخ والوقوف فى وجه التحديات والمقاومة، حتى وإن كانت الإمكانات ضعيفة، لكن الإصرار أكبر وأعظم. هذه الساعات الست التى أفقدت فيها مصر إسرائيل بجبروتها قدرتها على التوازن، لم تكن وليدة الصدفة، أو مغامرة غير محسوبة، فقد تمثلت فى «اقتحام مانع» و«اجتياح خط» ثم «إقامة رءوس جسور» ولكل مهمة من هذه المهام الصعبة وربما المستحيلة.. قصة ورجال..وعبقريات فى التفكير والتنفيذ، من أجمل سنوات عمرى، تلك التى قضيتها فى العمل الصحفى محررًا عسكريًا، فقد شاء لى القدر أن ألحق بجيل العظماء من أبطال نصر أكتوبر المجيد، وسجلت شهادات طويلة بعضها «تسجيلات صوتية» ما زلت أحتفظ بها حتى الآن.
فى هذه السنوات استمعت إلى قصص هى فى التوصيف الحقيقى «ملاحم»، الملاحم التاريخية العظمي. كنت دائمًا ما أنصت إلى القصص الإنسانية، البشر الذين يحدثون التغيير، فالمعارك وتفاصيلها معروفة، لكن البطولات الحقيقية كانت وسط التعامل والاقتحام والحصار. دائمًا ما كانت مثل هذه القصص، تقودنى إلى التفكير فى موسوعة «شخصية مصر: دراسة فى عبقرية المكان» للعظيم د. جمال حمدان، خاصة وصفه بالغ الدقة وتحليله لمفاتيح الشخصية المصرية، وهى ملكة الحد الأوسط وملكة الامتصاص، فالمصرى يمتص كل ما يرد إليه من ثقافات ويصهر كل ما يمتصه ويُخرِج ذلك فى إطار وسطى، يُمكِّنه من الاستمرار من دون أن يتأثر بأى ثقافة بعينها، أو بأى تيار عقائدى، وهنا يؤكد حمدان: أن الشعب المصرى رغم تعدد حضاراته وثقافاته من فرعونى إلى قبطى إلى إسلامى، بقى صامدًا، وله ثقافته المستمرة، التى ربما تتغير فى شكلها لكنها ثابتة فى جوهرها.
والآن.. نحن أمام درس تاريخى لا يزال يعيش معنا حتى اليوم، درس يحتاج، كما ذكر الرئيس السادات، إلى مزيد من الفحص والدرس، لكن الدرس الحقيقى حينما نستمد من هذه البطولات الأمل فى القدرة على اجتياز ما نشهده من صعاب. قبل أربعة عقود، اجتازت مصر أعنف وأضخم الموانع عبر التاريخ، بإمكانات قامت على فكر مصرى صميم، دون الحاجة إلى أفكار دخيلة، أو قدرات الغير.
اليوم نحن فى أمس الحاجة لأن نستعيد روح «العاشر من رمضان»، فمصر تواجه تحديات غير مسبوقة فى معركتها من أجل البناء والتنمية، وعدو الأمس لا يبعد كثيرًا عن عدو اليوم، فهى أدوار تختلف من زمن إلى آخر، لكن القضية واحدة.
الشعب المصرى متجدد وقدراته تفوق الخيال.. وإذا كان المصريون قد صنعوا «المعجزات» فى العاشر من رمضان، فإنهم على استعداد أن يصنعوا المزيد والمزيد..
[email protected]