نحلم بها؛ ونقترب منها أحيانًا وتهرب منا مرات، ولا غنى عنها للفوز بالحياة الناجحة والسعيدة؛ إنها القوة النفسية التي تعد الأوكسجين وبغيابها أو بنقصها ترتبك تفاصيل الحياة النفسية والصحية والعملية والاجتماعية..
في رمضان فرص رائعة "لصناعة" القوة النفسية ولمراقبة رصيدنا الحالي منها – بلا تهوين أو مبالغة - ليس لزرع قلة الحيلة إن لاحظنا قلة رصينا منها أو الغرور أو الاكتفاء إن اكتشفنا تمتعنا برصيد جيد منها؛ فسنتراجع دون أن نشعر..
القوة النفسية شأن أي قوة لا نعثر عليها صدفة ولا تأتينا لأننا سألنا عن الطريق لاكتسابها فقط؛ بل يجب السعي للتخطيط للفوز بها وتحويل الخطة لواقع التنبيه لإغلاق كل الأبواب التي تمنع تمتعنا بها؛ ومن أهمها تعجل النتائج أو توقع "تغيير" تفكير أو تصرفات من نتعامل معهم والأذكى تغيير ردود أفعالنا ومنع الاسترسال بالضيق من "غباوات" بعض البشر وغباراتهم التي يلقون بها علينا من آن لآخر والتشاغل عنها بما ينفعنا دينيًا ودنيويًا..
ولعل هذا ما "يعلمنا" إياه رمضان؛ فجملة اللهم أني صائم والتي أوصانا بها نبينا الحبيب صلوات الله وسلامه عليه عند التعرض لما نكره؛ تمدنا بقوة نفسية لنرفض إيذاء أنفسنا ونكره الخضوع لإرادة الآخرين بإيلامنا ومضايقتنا والتشبث "بقوة"، بعد الاستعانة بالرحمن بالطبع، بالتنبه للإمساك بدفة حياتنا ورفض السماح للآخرين بقيادتها بعيدًا عما نرغب به من السلام النفسي والقوة النفسية والتركيز على أهدافنا بالحياة..
ويقال في اللغة إن رمضان مشتق من رمض ورَمِض الشَّخصُ أي مشى على الرَّمضاء، وهي الحجارة المُحمَّاة؛ وكثيرًا ما تواجهنا الحياة، على غير رغباتنا، ببعض الأمور التي لا نحبها ونكون كمن يمشي على الحجارة المحماة وعندئذ يكون أمامنا اختيارات..
الأول وأكثرهم شيوعًا - مع الأسف - هو تنفس الرثاء للنفس؛ والتجول بنفسية الشاكي الباكي قليل الحيلة؛ ومن يفعل ذلك يسرق عمره؛ فسيحصل على تعاطف كاذب أو لوم عنيف أو نصائح يعرفها ولا يرغب بفعلها؛ رفضًا لبذل الجهد..
ويكون كمن يشكو تعب الصيام ويزيد من مشقته على نفسه بلا فائدة؛ ولو أعز نفسه لذكر نفسه بمكاسبه من الصيام ولاستعد له ولزرع القوة "بعقله" وبقلبه وتوقف عن تغذية الشعور بصعوبته..
والخيار الثاني هو التهوين مما نواجه؛ فنحصد الوجع كمن يمشي على الجمر بلا استعداد أو يتجاهل رؤية الحفر فيلقي بنفسه بها، أو كمن لا يستعد بتناول الطعام والشراب في السحور فيتعب كثيرًا بالصيام ويضاعف مشقته بيديه..
أما الخيار الثالث فيبدأ بتهدئة النفس ورفض المبالغة "وطرد" الاستماع لمبالغات الآخرين؛ والاقتناع بأن الله عز وجل لا يكلف نفسًا ما تستطيعه؛ ثم الابتسام للنفس بحب واحترام والتربيت عليها بود وعدم انتظار ذلك من الآخرين؛ فالجميع يواجه الصعاب بالحياة، والجميع يصوم ويتحمل مشقته، ومن الذكاء تحملها برضا..
نصل لأهم مقومات القوة النفسية وهي الإيمان بالله عز وجل واليقين بالآخرة وبأنها "نور" لمن بذل الجهد بالحياة للفوز برضا الرحمن ليس برمضان فقط؛ بل بكل ثواني عمره وسنينه؛ فهذا اليقين هو الذي يذلل الصعاب ويذيبها بتذكر أن "رحلة" الحياة ستنتهي بخيرها وبشرها "لتبدأ" الحياة الحقيقية والأوسع والأجمل والتي لا مشقة فيها ولا جوع ولا عطش لمن أحب الرحمن "وناضل" لطاعته دومًا..
ويقال رمضان يرمض الذنوب؛ أي يحرقها بالأعمال الصالحة؛ فلنحرق الضعف بالقوة النفسية..
ونحذر من عدو شائع للقوة النفسية ويزداد برمضان؛ وهو الاستنفار لكل الطاقات بهدف الفوز بأكبر قدر ممكن من الثواب "بأقل" وقت وهو مكلف نفسيًا وذهنيًا ومنهك جسديًا أيضا؛ والأفضل ترتيب العقل وكتابة ما نرغب بفعله برمضان وتجنب إخبار المحبطين، وما أكثرهم، والاحتفاظ بذلك لأنفسنا ولمن نثق بأنه سيرحب بذلك..
ثم السعي بتدرج "لطيف" لتحقيق ما نرغب مع الانتباه لأي "تراجع" بالعزيمة ومنعه أولًا بأول بلا قسوة على النفس؛ لأنها تؤذي كثيرًا وبلا تبرير للتراجع؛ فلا شيء "يدمر" الفوز بالأفضل مثله..
ونتوقف عند مثبط للقوة النفسية وهو "توقع" مساندة الآخرين لنا؛ في زيادة العبادات والطاعات برمضان أو ببدء حياة أفضل خلاله والتدرب عليها لتصبح طريقنا بالحياة طوال العمر..
ولتفوز بالقوة النفسية لا تعتمد على أي مخلوق؛ وصدق القائل: استعانة المخلوق بالمخلوق كاستعانة المسجون بالسجون؛ وتحرر من ذلك واستعن بالله ولا تعجز ثم اعتمد على نفسك، وانصح نفسك بما تنصح أحب صديق لقلبك وسارع بتنفيذ النصائح ولا تخذل نفسك أبدًا، وتذكر أفضل النور ما يأتي من داخلك فلا تنتظره أبدًا من خارجك؛ فسيأتي مرة ويغيب مرات وتصبح "خاضعًا" لمن يمنحه لك وقتما يرغب وأحيانًا بشروطه وتزرع العجز وقلة الحيلة بعمرك بينما تستحق القوة النفسية برمضان ودومًا فسارع بصنعها..
وكما تمتنع بإرادتك عن الطعام والشراب وكل محرمات الصيام برمضان سعيًا للفوز بالجنة؛ امتنع أيضًا عن كل ما يخصم من قوتك النفسية من تفكير وتصرفات طوال العام لتصنع جنتك بالدنيا – ما استطعت - ولتفوز بجنة الآخرة أيضًا؛ ففي الحديث الشريف: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله...".