كتب التاريخ سطرًا جديدًا في حياة الدولة المصرية، استعاد فيه تراث الأجداد، وأكد عظمة حضاراتها التي تعيش عهدًا جديدًا من التطوير، تشكل بها مرحلة جديدة من الوعي الثقافي، وتثمن بها على قوة الإبداع والتحدي في إثبات عظمة المصري على مختلف العصور والأزمات.
موضوعات مقترحة
كالمسرح الكبير، هكذا بدى مشهد موكب الاحتفال بنقل الممياوات الملكية لمتحف الحضارات، حدث حمل العديد من الرسائل السياسية والدينية، وتصدرت المرأة المصرية مشهديته وسط احتفاء خاص بها.
في هذا التقرير، نرصد ١٠ مشاهد من احتفالية موكب نقل المومياوات، ودلالاتها الفنية ورسائلها في السطور التالية..
ميدان التحرير
جاء اختيار "ميدان التحرير" باعثًا برسالة قوية للعالم، فمن هذا المكان الذي انطلقت منه ثورة يناير ٢٠١١ قبل عشر سنوات، تكتب الدولة المصرية مشهدًا جديدًا بعد تطويره ووضع مسّلة فرعونية ضخمة تتوسطه وسط ضبط تام لإيقاع الإضاءة؛ حيث انبعثت الأشعة من المنتصف على هيئة قرص الشمس لتصبح الأشعة المنبعثة بالإضاءة الزرقاء هي بوابة الأمل والحلم للمستقبل الأفضل أما قرص الشمس في "صينية الميدان" المضاء باللون الأصفر فهو رمز غير مباشر لوهج الشمس الباعثة للحياة وكأن التاريخ يحيى في الحاضر من جديد.
موكب المومياوات الملكية
حضور الأطفال في الميدان
كان لهرولة الأطفال نحو الميدان استعدادًا لانطلاق الموكب، وسط نظرة عميقة نحو المسلة الفرعونية كثير من الدلالات، بداية من مشهد جريهم واتجاههم نحو المسلة في إشارة لوعي النشأ الجديد بهويته وحضارة بلاده، ثم تأتي لقطة قريبة "كلوز" على وجوه الأطفال خلال نظرتهم للمسلة الضخمة وكأنهم يتطلعون للمستقبل الجديد في نظرة تحمل التفاؤل والاعتزاز بغدًا مشرق للوطن الذين هم جزء من تشكيله الجديد.
الإضاءة ودورها المؤثر
يتوازى دور الإضاءة التي نفذت على يد المهندس حامد عرفة، في صدارة المشهد مع الموسيقى الخاصة التي وضعها الموسيقار المصري هشام نزيه، فلولا هذا الإبهار البصري لما خرجت الصورة في شكل فيلمًا سينمائيًّا كما بدت عليه.
وفي المقدمة تنبعث الإضاءة الصفراء من أوجه المتحف المصري بالتحرير في تأكيد ودلالة أخرى على فكرة "البعث للحياة" وكأن الممياوات الملكية في رحلة للبعث من جديد خلال انتقالها لمتحف الحضارات، والبعث لدى الحضارة المصرية القديمة يرتبط بالشمس والتي كانت معبودًا مقدسًا لديهم، لذلك حملت الإضاءة على المتحف اللون الأصفر كدلالة على البعث والوهج من جديد.
وتأتي الإضاءة الزرقاء تتصدر مشهد تحرك الموكب في الممر الخاص به من بوابة المتحف، وكأن المشاهد يعيش في حلمان أحداهما يتعلق بالمستقبل الذي يتحقق على أرض الواقع يدعم ويكلل صورة دولته، وحلم آخر يعيش معه في رحلة طقسية من تراث الأجداد.
موكب المومياوات الملكية
ومن الحلم إلى تحقيقه ووضوحه ناصعًا، يبدو ذلك في الإضاءة البيضاء التي أحاطت مداخل متحف الحضارات، في مشهد يوضح عظمة وفخامة البناء ويوضح تفاصيل الإنشاء كاملة من الداخل والخارج وبدى ذلك في الجولة التي قام بها الرئيس عبد الفتاح السيسي بصحبة وزير السياحة والآثار الدكتور خالد العناني.
وبحسب المراجع التايخ، فإن اللون الأبيض عند الفراعنة هو دلالة على الرفعة والسمو بالمكانة الاجتماعية.
الشعار الملكي
بدى الشعار المستخدم في موكب نقل الممياوات متسقًا ومنسجمًا مع الحدث، مزج فيه باستخدام اللون الأزرق الداكن والذهبي، والاثنان مستوحيان من الحضارة القديمة، فالأزرق لون ارتبط لدى الفراعنة بالطقوس والعبادات أما اللون الذهبي فيشير للخلود المتمثل في أشعة الشمس.
أما شكل الشعار فقد مزج بين الجعران القديم والذي يرمز لحياة البعث ضمن الطقوس الجنائزية، والأجنحة الكبيرة التي كانت تستخدم رمزًا للحماية في الحضارة المصرية.
تصوير سينمائي
عظمة الحدث تفرض على صناعه المزيد والمزيد من الإبداع، ولكن حتى تخرج الصورة بهذا الشكل الاحترافي لم يكن من السهل وضع المهمة في جعبة رجل واحد؛ بل تقسيمها بين اثنين من أصحاب الأسماء البارزة في هذا المجال، الأول وهو مازن المتجول الذي رسم صورة مشرقة للدولة المصرية من أعلى، في مشاهد تؤكد عظمة وجمال البلاد، ولقطات تنطق بالعراقة وبدى ذلك واضحًا في اللقطة الواسعة للمتحف المصري قبل انطلاق الموكب وكأن الكاميرا تتحدث "هنا مصر..هنا التاريخ..فلنكتب سطراً جديدًا به" وبحركة دائرية لقلب ميدان التحرير، وبإضاءة تحيط المباني المحيطة به تبدأ الإضاءة تعطي إشاراتها على مبنى تلو الآخر في صورة تعريفية لقلب القاهرة أمام المشاهد العالمي.
موكب المومياوات الملكية
وعلى الجانب الموازي، يقوم مدير التصوير أحمد المرسي بمهمة أخرى يستعرض من خلالها مشاهد لأماكن متفرقة من الحضارة المصرية، في لقطات حملت كلمات للنجوم المشاركين "هند صبري، منى زكي، أحمد السقا، نيللي كريم، أحمد عز، كريم عبد العزيز" في استعراض سلس ومنمق، ولكن تبدو اللقطة الأبرز في هذا المشهد، تلك التي ظهرت بها النجمة منى زكي خلال فتح بوابة المتحف المصري لتعلن عن انطلاق تحرك الموكب وهي إحدى طقوس الحضارة القديمة أيضًا.
التصميم الحركي
هناك ثلاثة مشاهد لا يمكن إغفالها في هذا الحدث فيما يتعلق بتصميم الحركة:
الأولى: قبل لحظة انطلاق الموكب، عندما أعطت الفنانة منى زكي إشارة البدء مع فتح بوابة المتحف المصري لتنطلق الحركات المنتظمة بين فتايات تتحرك سريعًا تتقدم الموكب، مرتدية للزي الفرعوني، وخلفها حركة استعراضية لتحرك عربات نقل الممياوات قبل خروجها من المتحف، يتوازى مع ذلك حركة للدراجات البخارية.
الثانية: في نفس التوقيت الذي يتحرك فيه الموكب، تظهر لقطات منفصلة لرقصات متعددة للفتايات مرتدية الزِّي الفرعوني تماشيًا مع الطقس الجنائزي الفرعوني، ظهرت فيها العديد من الحركات الراقصة المتعددة، وكان الأبرز هو المزج بين الرقصات الفرعونية التي كانت تقام في مثل هذه المناسبات وبعض الحركات الحديثة "مودرن" التي لم تطغ بشكل كبير وتفسد إيقاع الحركة في الحضارة القديمة.
ويتسق مع ذاك مشهد رفع أذرع الفتايات في حركة تشبه الطائر خلال تواجدهم في أماكن متفرقة بميدان التحرير وهو مشهد معتاد في الطقس الجنائزي.
وأخيرًا: تظهر الحركة الثالثة لتستكمل الطقس الجنائزي في مشهد كان ملفتًا للغاية خلال الوصلة الغنائية للسبرانو العالمية أميرة سليم التي تغنت بإحدى نصوص إيزيس القديمة، اتشحت المطربة بالملابس السوداء واستحضرت وقفتها المائلة قليلًا بنفس الطريقة التي صورت بها المطربات على جدران المعابد القديمة.
المرأة المصرية تتصدر
كانت المرأة المصرية عنوانًا بارزًا لهذه الاحتفالية، في رسالة واضحة على قوة دورها وأهميتها منذ الحضارة المصرية القديمة، وحتى يومنا هذا والذي لا تزال فيه تبهره بتطورها وإبداعها، المرأة التي احتفى فيها الرئيس عبد الفتاح السيسي وأكد دعمه لها في كثير من الأحداث والاحتفالات.
ظهرت المرأة بهذا الحدث في مواقع إبداعية مختلفة، فهناك نموذج للإعلامية المثقفة الواعية تجسد في ثلاثة وجوه كانت حديثًا لجميع مواقع التواصل الاجتماعي في مقدمتهم الإعلامية ذو الوجه الدبلوماسي جاسمين طه زكي، وآية الغرياني التي لفتت الانتباه بلباقتها وثقتها الكبيرة في الحديث رغم تواجدها لأول مرة في حدث رئاسي بخلاف إجادتها في التحدث باللغتين الإنجليزية والفرنسية بتميز شديد، وصولًا للإعلامية ناردين فرج مقدمة الحفل بمتحف الحضارات والتي اكتسبت شعبية كبيرة في السنوات الأخيرة بين الجمهور.
موكب المومياوات الملكية
تتجلى عظمة المرأة المصرية بهذا الحدث في الملحمة الإبداعية التي قدمتها على المسرح من خلال تواجد عدد من العازفات المحترفات، تملأ وجهن ثقة بالنفس، ومسئولية تؤكد تقديرهم لتواجدهم في هذا الحدث..ووسط ثبات انفعالي وحركي نابع من قوة الإحساس بالآلة وبعزف المقطوعة المتفردة التي وضعها الموسيقار هشام نزيه للحفل، تكتب العازفات رضوى البحيري "التمباني"، وسلمى سرور "الفيولينة"، وتقى عبد الرحيم "إيقاع" سطراً جديدًا في الثقافة الموسيقية المصرية.
يستكمل المشهد الإبداعي باختيار ثلاثة أصوات نسائية تحمل كل منها طبقات مميزة ومختلفة عن الأخرى، ويبقى التفرد في احتفاظ كل منهما بحالتها الغنائية دون إقحامها على حالة مختلفة على طبيعة صوتها، تفتتح المطربة المصرية الشهيرة ريهام عبد الحكيم الغناء كتمهيد للأذن في هذا الطقس الموسيقي المتفرد وقبل أيضًا تحرك الموكب رسميًّا ثم تتشح الوصلة الغنائية بالسواد تماشيًا مع المشهد الجنائزي ببصمة صوت السبرانو أميرة سليم.
وتأتي المطربة المصرية نسمة محجوب مختتمة المشهد بالأغنية التي كتبها الشاعر أمير طعيمة "حكاية شعب"، تدخل متفردة بالغناء من طبقة صوتية عالية، كأنها تصرح للعالم بدخلتها ..أن مصر حكاية أمجاد وتاريخ عريق فانتبهوا أيها العالم.
الكينج يجلس متوسطًا النيل
"أنا مصر" لم تكن مجرد كلمات كتبها الشاعرأمير طعيمة ليضع الفنان محمد منير صوته عليها، بل تأكيد على حضارة وتاريخ الدولة المصرية وقوة وصلابة شعبها، وتتسق الأغنية مع اختيار "الكينج" الصوت المصري العابر للقارات وهو أجدر من يليق من الأصوات الذكورية للتواجد بالحدث، بل تزداد أهمية وجوده بكونه ابن الجنوب ..ابن الحضارة المصرية القديمة التي نشأت على ضفاف النيل الذي ظهر في خلفيته لتأكيد المعنى.
موسيقى هشام نزيه وإدارة نادر عباسي
يعي الموسيقار المخضرم جيدًا كيف يعمل على مشروعه، فليست هذه المرة الأولى التي يتصدر فيها حديث الجميع لكن تزداد عظمة المشهد في تواجده بحدث عالمي، نجح خلاله في جعل موسيقاه رمزًا يؤكد على الإبداع وعظمة المشهد بأكمله.
لدى هشام وقفات مهمة في هذه المقطوعة المتفردة لكن الملفت للانتباه بها صوت "المارش" الذي يطرقه بين الحين والآخر، ليؤكد رسالة الحدث "انتبهوا أيها العالم هنا مصر"، اختار نزيه أن تكون موسيقاه محملة بروح الحياة المصرية القديمة وبدأ معزوفته بعد المارش الافتتاحي بآلة "الناي" وهي أقدم الآلات التي ظهرت في التاريخ، هذا بخلاف التركيز على الآلات الإيقاعية "التمباني، توم توم، الدفوف، تراينجل، سنير درامز" بالتداخل مع الآلات الوترية مثل الكمان والفيولينه والربابة والهارب.
موكب المومياوات الملكية
العديد من هذه الآلات استخدمه المصري القديم كما بدى على جدران المعابد القديمة لذلك بدت صوت الموسيقى المؤلفة نقي وخالص يعود لروح حياة الأجداد، كل ذلك في مشهد قيادة مميز للمايسترو نادر عباسي الذي حافظ على توازن مستوى قوة وحركة الصوت وإدارة العازفيين الذين وصل عددهم لـ ٢٠٠ عازف.
"مصر الحضارة"
لم يكن هذا الفيلم القصير للنجم خالد النبوي، والمخرج تامر العشري، الذي عرض ضمن الاحتفالية مجرد عمل يستعرض العديد من الآثار المصرية والمتاحف والمعابد بل إنه بالأساس يبعث برسائل للعالم تؤكد احترام الحريات والديانات الثلاث، فيلمًا حمل معاني خاصة تلوح بالتسامح وتؤكد رسالة كل ديانة بالعقيدة الخاصة بها.
في الفيلم يظهر النبوي في المعبد اليهودي وهو يقول: لا تقتل..لا تزني..لا تشتهي ما يطلبه جارك، وبالكنيسة المعلقة يروي سطورًا من الكتاب المقدس، وبالجامع الأزهر يرفع يده في الصلاة "الله وأكبر" ويؤكد أن التعبد من أجل التطلع للعلم، في رسائل غير مباشرة لمن يبعث بالجهل والعبث بالأفكار التخريبية مستخدمًا شعار الدين.
تزداد جمالية الفيلم بموسيقى الموسيقار المميز هشام خرما الناعمة، التي تحتفي بفخامة وعراقة الآثار وكأنها تقوم بعمل استكشاف في أذن المستمع لتضعه في قوة الملاحظة والانتباه على نغمات آلة العود خلال كلمات خالد النبوي وحديثه مع الآخرين المتخصصين، وتمنح حنينًا لمن يشتاق لزيارة واستكشاف عظمة حضارة بلاده من جديد.