نجاح منظومة «قش الأرز» يدفع الحكومة للاستفادة من المخلفات الزراعية
«البيئة» تتحمل عبء التخلص من قرابة 40 مليون طن مخلفات فى مصر سنويًا
الحكومة تتلقى 215 مليون دولار منحة للتخلص منها.. وإشراك المجتمع المدنى ضرورة
ثروة قومية لإنتاج السماد العضوي.. وباحثون يقدرونها بـ50 مليون طن سنويًا
منتجاتها تدخل فى إحياء خصوبة التربة.. ومطالب بتطبيق التجارب العالمية فى مصر
يظل الحديث عن ملف تدوير المخلفات الزراعية ضيفًا دائمًا على طاولة مناقشات ولقاءات المسئولين، دون أن يكون هناك حلول جذرية واقعية للاستفادة من هذه الثروة القومية الكبيرة، أو تحويل هذه المخلفات من عائق وسبب يخلف كوارث بيئية إلى منتج اقتصادى يحقق عائدا كبيرًا للاقتصاد القومي، خصوصًا وأن حجم المخلفات بشكل عام فى مصر وفقًا لبيانات رسمية صادرة من وزارة البيئة، يقدر بنحو 42 مليون طن من المخلفات الزراعية سنويًا يتم إهدارها، تتخطى الصلبة منها 26 مليون طن فى السنة الواحدة.. وهذا ما يؤكد أننا أمام استثمار كبير وثروة قومية مهملة يمكن أن تدر مليارات الجنيهات للدولة المصرية.
ملايين الأطنان سنويًا من المخلفات الزراعية تهدر بِأشكال وصور متعددة، وقد ظلت هذه الثروة الاقتصادية العملاقة مهدرة – ولا زالت- لعشرات السنين، فى الوقت الذى يتجه العالم كله إلى تعظيم القيمة المضافة لهذا المورد الهام، وتبنى منظومة التوسع فى مشروعاتها الاستثمارية التى حققت أرباحًا هائلة بتلك الدول؛ الأمر الذى جعل الحكومة تتنبه إلى أهمية العائد الاقتصادى لهذا المورد بالنسبة للدولة أو للمزارع، وقد بدأت فى تشجيع صغار المستثمرين والقطاع الخاص خلال الفترة الأخيرة للتوسع فى مشروعات التدوير لتحقيق أعلى عائد وتوفير المزيد من فرص العمل الشباب، وذلك عن طريق تسهيلات الإجراءات المطلوبة فى إنشاء هذه المجمعات، ومنح قروض مدعمة لإقامة مشروعات ذات صلة.
ولا يقتصر مسمى المخلفات الزراعية هنا على متبقيات المحاصيل، بل إن المخلفات الحيوانية تدخل هى الأخرى فى منظومة إعادة التدوير وتحقيق قيمة مضافة حقيقية بدلًا من إهدارها أو التخلص منها بطرق تضر بعناصر البيئة خصوصا الإنسان، فى حين أن هناك العديد من المنتجات التى يتم استخلاصها من منظومة التدوير على رأسها، الأعلاف والأخشاب والأسمدة والوقود الحيوي، وقد نجحت تجارب عديدة نفذتها دول أوربا فى الاستفادة من تلك المخلفات فى توليد الكهرباء واشتقاق الوقود الحيوي، ومستلزمات أخرى كثيرة كانت شاهدة على نجاح مشروعات تدوير المخلفات الزراعية.
رسائل علمية كثيرة أجراها العديد من الباحثين بالمراكز والجامعات المصرية لإبراز أهمية تبنى منظومة الاستفادة من تدوير المخلفات الزراعية داخل آلية متكاملة تحقق عائد اقتصادى كبير، وتشجيع الاستثمار بهذا القطاع الكبير.. وقد توصلت آخر تلك الدراسات التى أجراها الدكتور إبراهيم سليمان أستاذ الاقتصاد الزراعى بجامعة الزقازيق والذى توصل إلى أن كميات المخلفات الزراعية التى تنتج سنويا تقدر بحوالى 26 مليون طن، كما يتم استخراج العديد من المنتجات، على رأسها إنتاج الطاقة الحرارية ومنتجات الوقود، وقد طبقت العديد من هذه التجارب الناجحة بقرى كفر العزازى بأبوحماد ــ الشرقية، وقرية تمى الأمديد بمحافظة الدقهلية، كما يستخرج منه إنتاج الأعلاف غير التقليدية كالسيلاج، وإنتاج الأسمدة العضوية، وصناعة الخشب والورق، وزراعة بعض المحاصيل على بالات قش الأرز مثل الطماطم والخيار والفلفل والكانتالوب، وإنتاج الأعلاف غير التقليدية من قش الأرز.
وقال الدكتور سليمان، إن العديد من الدول لجأت خلال الفترة الأخيرة إلى استخدام متبقيات الإنتاج الزراعى فى استخراج «الكمبوست»، وساهمت هذه المنظومة فى حل مشكلات تصحر الأراضى ونقص عناصر التربة، فعلى سبيل المثال بالنسبة للأراضى الرملية تؤدى إلى زيادة تماسك الأرض وزيادة قدرتها على الاحتفاظ بالماء، كما تزيد من محتواها من العناصر الغذائية اللازمة لنمو النبات, أما فى الأراضى الجيرية فإضافة المادة العضوية تؤدى إلى تحسن خواصها الطبيعية وخاصة مشكلة تكوين القشرة وذلك نظرا للانحلال الميكروبى للمادة العضوية وامتصاص الجزيئات ذات الوزن الجزيئى الكبير على الحبيبات, لذلك فان إضافة المادة العضوية للأراضى الطينية الثقيلة يؤدى إلى تفككها وتحسين الخواص الطبيعية لها ورفع خصوبتها.
وأكد أستاذ الاقتصاد الزراعى أن المخلفات الزراعية تدخل فى استخراج سماد الدواجن نتيجة للتوسع فى مزارع الدواجن الخاصة بالتسمين وإنتاج البيض فى مناطق مختلفة, تفرز كميات هائلة من مخلفات الدواجن تستخدم كأسمدة عضوية عالية الكفاءة وفى نفس الوقت تحتاج هذه المخلفات إلى معاملات خاصة حتى لا تصبح مصدرا للتلوث البيئي, من حيث انتشار الروائح الكريهة والأمراض ويختلف السماد العضوى الناتج من مزارع الدواجن طبقا للغرض الذى أنشئت من أجله المزرعة، مضيفًا أن هولندا نجحت فى تحقيق طفرة كبيرة فى هذا الملف، واستطاعت خلال الفترة الأخيرة أن تحقق أعلى استفادة من استغلال هذا المنتج.
أما الدكتور مجدى مسعد، باحث وأحد خبراء محطة البحوث الزراعية بالإسماعيلية، فأشار إلى أن عددا من الباحثين تبنوا مؤخرًا فكرة مشروع تدوير المخلفات الزراعية وقد نجحت بالفعل فى منطقة شمال سيناء بالتنسيق مع عدد من مسئولى الوزارات بالمحافظة، حيث توصل إلى نتائج كبيرة بالتنسيق مع أكاديمية البحث العلمي، خاصة وأن هذه المخلفات تعد قيمة اقتصادية كبيرة لابد وأن يتبناها رجال الأعمال والمستثمرين للتوسع فى استخداماتها، حيث تستخدم العديد من الدول تقنيات حديثة لتصنيع هذه المخلفات والاستفادة منها دون أن تتسبب فى أضرار للبيئة، أو أى كوارث صحية أخرى، مضيفًا أن هذه المخلفات تنتج العديد من السوائل المصنعة منها استخراج المبيدات الحشرية الحيوية، والمبيدات الفطرية الحيوية والفحم الحيوى إضافة إلى زيوت الطلاء الحيوية.
وأضاف مسعد، أن هناك العديد من الباحثين زاروا دول كينيا وأيرلندا للاطلاع على التجارب الناجحة التى حققت طفرة فى ملف تدوير مخلفات الزراعة تعظيم الاستفادة من هذه المخلفات يساهم فى دعم الاقتصاد القومي، كما أنه من المقترح أن يتم تعميمها على عدد من المناطق القريبة من المراكز البحثية، حيث أن هناك تحول رقمى يعمل بتقنية خاصة تعتمد على الميكنة الرقمية فى تحويل النفايات والمخلفات الزراعية إلى منتجات اقتصادية، حيث تدخل فى هذه التقنية أجهزة أوربية، إضافة إلى أن هناك العديد من المراكز البحثية على رأسها أكاديمية البحث العلمى تشارك فى تمويل هذه المشروعات.
وتحدث الدكتور خالد غانم أستاذ الزراعة العضوية بجامعة الأزهر عن دور الزراعة العضوية باعتبارها المسار الثانى فى الصناعات الزراعية المرتبطة بالزراعة العضوية وصناعة المخلفات العضوية، قائلًا: الدول المتقدمة تؤمن بأن منظومة تدوير المخلفات هى صناعة هائلة وواعدة، لكنها فى مصر مهملة وغير ملتفت إليها بالشكل المطلوب, كما أن لدينا فى مصر ملايين الأطنان من المخلفات العضوية التى تهدر كل عام, ولو اعتبرنا أن هذه الكميات يمكن استخدامها فى صناعات كثيرة واقتصادية فإن ما يأتى على رأسها الكمبوست, والفيرمى كمبوست وسماد دود الأرض, وعبر هذا يمكن إنتاج 50 مليون طن من الكمبوست, أو 35 مليون طن من الفيرمى كمبوست, عند مقارنة محتواة من العناصر الغذائية التى تستخدم كسماد كيماوى للأرض من العناصر الكبرى التى يحتاجها النبات من النتروجين والفوسفور والبوتاسيوم نجد القيمة قد تصل إلى 25 مليار جنيه.
وزاد غانم عن أهمية هذه المخلفات فى تحقيق قيمة اقتصادية كبيرة قائلًا: إن هذه المنظومة يمكن توفيرها سنويا للاقتصاد المصرى كنتيجة مباشرة أما عن النتائج غير المباشرة فيمكن تحقيق استفادة من صناعة المخلفات الزراعية فى إعادة إحياء الخصوبة إلى التربة المصرية باستخدام هذه الأسمدة العضوية التى مصدرها فى الأساس هو المخلفات الزراعية, أيضا أهمية التخلص بهذه الطرق الآمنة من المخلفات الزراعية فى الحد من الانبعاث الملوث من المصانع عند إنتاج الأسمدة الكيماوية, وحماية البيئة وصحة الناس وتوفير مليارات أخرى تدفع فى المستشفيات واستيراد الأدوية، ومما يجدر الإشارة إليه أن صناعات الأسمدة العضوية غير مقننة فى مصر إلى الآن, ومن الواجب تقنينها فورا خاصة مع توجه الدولة إلى الزراعات العضوية والمستدامة, فضلا عن توافر مواردها بكثرة فى كل أنحاء مصر.
أما الدكتور سيد خليفة، المتحدث باسم الزراعيين، فقال إن القانون نظم عملية الاستفادة من المخلفات بشكل عام وقد يدخل فى ذلك المخلفات الزراعية، حيث جاء مضمون القانون رقم 202 لسنة 2020 حظر إلقاء المخلفات الزراعية فى المجارى المائية والتخلص منها فى غير الأماكن المخصصة حيث عرّف القانون المخلفات الزراعية بأنها تلك المخلفات الناتجة بشكل مباشر عن أنشطة زراعية أو بستانية أو الحدائق أو الأشجار أو الناتجة عن أنشطة تربية الحيوانات أو الطيور، كما وضع القانون منظومة متكاملة تٌعنى بأمر المُخلفات الزراعية كاملاً وحظر الحرق المكشوف لها، فضلا عن حظر إلقاء المخلفات الزراعية فى المجارى المائية خاصة فى ظل جهود الدولة الأخيرة فى ملف تبطين الترع وتبنيها مشروع قومى لتطوير مجارى المياه.
وتابع: حظر القانون التخلص منها فى غير الأماكن المخصصة لذلك مع إلزام المحافظة المختصة ومديريات الزراعة باتخاذ كل التدابير نحو توفير الأراضى اللازمة لإدارة المخلفات الزراعية، وأخيرا فالتشريع الجديد يعد من القوانين المهمة التى جاءت فى توقيت مناسب جدًا وذلك بعد تفاقم الآثار الناتجة عن طرق التخلص من المخلفات الزراعية، موضحًا أن مصر بها 40 مليون طن مخلفات زراعية أو منزلية سنويا وهى ثروة يجب الاهتمام بها ولا يوجد أى حالة لحرق قش الأرز تم رصدها، خاصة بعد نجاح منظومة الحكومة المصرية مؤخرًا ممثلة فى وزارتى الزراعة والبيئة للتخلص من ظاهرة حرق قش الأرز التى تمثل خطرًا كبيرة على البيئة.
وأضاف خليفة أن وزارة البيئة وقعت بروتوكولا مع الهيئة العربية للتصنيع ومحافظة الوادى الجديد لإنشاء أول مجمع صناعى لإعادة تدوير مخلفات النخيل، باعتبار أن زراعة النخيل بمحافظة الوادى الجديد من الأنشطة الزراعية الواعدة المنتشر بشكل كبير وكثيف فى كل مناطق المحافظة تصل وفقًا لآخر إحصائية إلى 2 مليون نخلة تقريبا، كما أنها تحقق العائد الاقتصادى الكبير فى مجال إعادة تدويرها، وقد جاء هذا الاتفاق بعد التجارب البحثية الناجحة التى أكدت جدوى هذا المشروع القومى وأهمية الاستعانة بأحد المراكز البحثية بألمانيا لتحقيق أعلى استفادة من هذا المورد وتصنيع الأخشاب من مخلفات النخيل، مشيرًا أن التوسع فى هذه المجمعات الصناعية يساهم فى توفير فرص العمل للشباب، ويحقق جدوى اقتصادية كبيرة من هذه الموارد المهدرة والتى تتعرض لطرق كارثية عند التخلص منها.
وأكد الدكتور سيد خليفة أن مصر نجحت خلال الفترة الأخيرة فى الاستفادة من منظومة قش الأرز بعدما تبنت الحكومة المصرية ممثلة فى وزارتى الزراعة والبيئة منظومة تحويل قش الأرز إلى سماد عضوى وأعلاف، مما ساهم فى اختفاء ظاهرة السحابة السوداء، خاصة وأن مصر تنتج ما يقرب من 4 ملايين طن قش أرز سنويًا كان يتم حرقها فى الوقت الذى يتم زراعة ما يقرب من مليون ونصف فدان من الأرز سنويًا يصل فيها معدل القش إلى نحو 2 طن تقريبا لكل فدان، وقد ساهم نجاح هذه المنظومة فى تحقيق عائد اقتصادى للمزارع نفسه فى وقت كان يحرق مخلفات الأرز ويتسبب فى كوارث بيئية، أما الآن فالمزارع يبيع طن القش بـ1000 جنيه، مطالبًا بتنفيذ هذه المنظومة فى محصول القمح أيضًا خاصة وأن المساحات المنزرعة كل عام تصل لنحو 3.4 مليون فدان سنويًا، وكذلك فى قصب السكر الذى تصل مساحات زراعته لنحو 350 ألف فدان سنويًا فى محافظات الوجه القبلي.
وأشار إلى أن وزارة البيئة عليها مسئولية كبيرة فى ملف تدوير المخلفات الزراعية، بل كان لها باع طويل فى نجاح منظومة تدوير مخلفات قش الأرز وتحقيق الاستفادة القصوى منها بطريقة آمنة، وقد سبق وأن تلقت الحكومة ممثلة فى وزارة البيئة منحة بقيمة 215 مليون دولار لتبنى منظومة متكاملة فى توفير معدات وأجهزة التخلص من هذه المخلفات، إلا أنها اشترت ناقلات ومعدات ووزعتها على المحافظات دون أن يكون هناك إستراتيجية واضحة لإدارة هذا الملف، مشيرًا أن الجمعيات الأهلية أيضًا عليها دور كبير فى نجاح هذه المنظومة والتخلص من المخلفات بشكل عام وليست الزراعية فقط، وقد كان ذلك واضحًا فى محافظة قنا ونجاح إحدى الجمعيات فى تحقيق طفرة كبيرة فى الاستفادة من مخلفات الموز وصناعة الحبال من هذا المحصول المنتشر بكثافة فى مساحات واسعة بمناطق المحافظة .
وأشاد الدكتور سيد خليفة بتجربة إيطاليا فى إدارة ملف المخلفات بطريقة علمية وآمنة، قائلًا: زرت إيطاليا منذ فترة، وأطلعت على مجمع إدارة المخلفات الزراعية والصلبة هناك، وقد حققت هذه الدولة نجاحات كبيرة فى هذه الملف فى توليد وإنتاج الكهرباء ضمن منظومة استهلاك الدولة، كما أن الحكومة المصرية ممثلة فى وزارة الزراعة بدأت خلال الفترة الأخيرة بحث سبل التعاون بين الأشقاء الأفارقة فى مجال تدوير المخلفات الزراعية وكيفية الاستفادة منها، مطالبًا بضرورة نقل التجارب الناجحة لإدارة المخلفات بشكل عام والمخلفات الزراعية حول العالم فى مصر، مع إشراك القطاع الخاص وجمعيات المجتمع المدنى فى الاستفادة من هذه المنظومة.