لو عرف فان جوخ عظمة موهبته والتأثير الهائل لعبقريته والتغيير الذي أحدثه بالفن؛ لما اهتم يومًا بمضايقات الأوغاد له، ولقاوم أكثر "بؤس" حياته؛ والذي استنزفه نفسيًا وعقليًا، ولتنفس الفرح والزهو بالرسم الذي كان عشقه وشغفه والصلة التي تربطه بالحياة وقال عنه: الوقت الوحيد الذي أحس فيه أنني حي هو عندما أرسم...
ولد فينسنت فان جوخ في 30 مارس 1853 بهولندا ومات في 27 يوليو 1890 وقيل إنه انتحر ويرى البعض أنه قُتل..
عاش حياة قاسية وعانى الفقر واضطر لترك التعليم وهو بالخامسة عشرة، وعمل بمتجر لبيع اللوحات الفنية وعاني كثيرًا في مراهقته من أقاربه-الذين اعترفوا بعد موته بظلمهم له- وتألم لاحقًا من غيرة فنانين منه، وحتى طبيبه الخاص الذي كان يرغب أن يكون رسامًا!!
تعرض للتنمر ببشاعة وبقسوة؛ بعد قطعه لأذنه - لاضطرابه العقلي عندئذ - وقيل إنه لم يقطع أذنه كاملة بل قطع شحمة الأذن فقط، ورغم خضوعه للعلاج وتمام الشفاء وعودته للرسم لكن الإيذاء النفسي ومعايرته بذلك استمر طوال عمره..
تعلم اللغات الإنجليزية والألمانية والفرنسية وقرأ لكبار الأدباء، وعلم نفسه الفن وأتقن رسم المناظر الطبيعية بألوانه الخاصة وبجرأته في الخروج عن المألوف في عصره وصنع لنفسه أسلوبه المتفرد..
قال: إذا سمعت صوتًا داخلك يقول إنك لا تستطيع الرسم فهذا يعني أن ترسم؛ وسيصمت هذا الصوت للأبد، والمذهل أنه بدأ الرسم وهو بالثامنة والعشرين ورسم مئات اللوحات ووصل للقمة وأسس تيارًا جديدًا بالفن بالعالم بعد ثماني سنوات فقط من رسمه..
كان عاشقًا للفن وحرم نفسه كثيرًا من الطعام ليشتري أدوات الرسم الذي يحميه من الغرق بالاضطراب النفسي وانتصر على عذاباته وواصل الرسم لآخر يوم، وكان يقضي وقته بين الرسم والقراءة والكتابة لشقيقه، وتمني أن يتذكره العالم كصاحب مشاعر عميقة وقلب حنون وهو ما فاز به..
من "عظمة" جوخ مقاومته لمرضه العقلي ومواصلته الرسم بحب وإتقان مع أنه لم يبع إلا لوحة واحدة طوال حياته! وقال لا أستطيع تجاهل أن لوحاتي لا تباع، ومع ذلك "وهب" عمره لفنه، ربما لاقتناعه بقوله: كيف تكون الحياة إذا لم نملك الجرأة على المحاولة؟! أحلم بالرسم ثم أرسم حلمي..
لم يترك الرسم ربما لإدراكه بقيمة العمل ولا شك أن انغماسه به خفف من وطأة مرضه؛ فلا شيء ينعش الروح ويقلل الوجع كالإنجاز.
هزمته رقة مشاعره وأثرت فيه بالسلب تكرار مشاكله العاطفية وبعض الصراعات مع الرسامين المعاصرين له وصداقات لم تستمر وتألم بسببها وعلاقات عاطفية لم تنجح وعذبه ذلك وإن أثرى فنه وألهمه إبداعه الذي تفرد به..
قال: يعرف الصيادون أن البحر خطر والعاصفة شديدة لكنهم لم يظنوا أبدًا أن هذه الأخطار سبب كاف للبقاء على الشاطئ؛ وفاته الاحتياط من عواصف "البشر"؛ فهي الأقسي..
وصرخ: أتمني أن يقبلوني كما أنا؛ ولم يصله القول البديع لـ"ميكافيللي": "الأبرياء العزل من الخبرة والفطنة يهلكون"، ولم ينتبه لحقيقة أن معظم سخافات البشر غير مقصودة والبعض يفعلها متعمدًا الإيذاء ولا يستحقون عناء التفكير بهم والأفضل حماية النفس منهم والمسارعة بالتخلص من آثارهم الضارة كما نفعل بالنفايات أولًا بأول فنحرمها من إلحاق الضرر بنا وهو ما فاته مع الأسف؛ ومنحهم أهمية بحياته وخسر بسببهم وكان الأفضل المسارعة بطردهم من حياته.
تراوحت رسومه بين وهج وتألق الطبيعة بألوان تنبض بالحيوية وبالانطلاق وبالبراح المبهر غير المسبوق وأخرى يرصد فيها الألم الإنساني لعمال المناجم ولغيرهم؛ بل ولنفسه حيث رسم نفسه كثيرًا؛ وكأنه يؤرخ لحياته برسمه، فبدا حزينًا ومتألمًا كثيرًا؛ وربما كان هذا الفارق بين أحلامه التي عبر عنها بالطبيعة الخلابة والواقع بالوجوه المستنزفة نفسيًا..
اختزل حياته بالفن؛ واضطره ذلك وقال: أضع قلبي وروحي في عملي، وفقدت عقلي بسبب ذلك، وكان يقدر ويتأمل كل ما هو جميل بالحياة كما قالت ابنة طبيبه.
أخلص لفنه رغم عدم فوزه بالمال ولا الشهرة ولا التقدير بحياته، وهو منذ أعوام طويلة من أهم الفنانين بالعالم ولوحاته تباع بالملايين..
عمل واعظًا في مناجم الفحم وأخلص بعمله وكيف لا يفعل؟ وهو القائل الضمير بوصلة المرء وتعاطف بشدة مع العمال وشاركهم حياتهم القاسية ورسم تفاصيل حياتهم وسعي لتحسين أحوالهم ورفع معنوياتهم وتسبب ذلك بطرده..
تحدى مرضه وعاش محنة الإجبار على العيش بمصحة عقلية، وكان يرسم لوحات كثيرة تنم عن وعي كامل بالتفاصيل الدقيقة مع مهارة استخدام الألوان بجرأة وعبقرية.
كان يؤرقه مضي الحياة بلا هدف يسعى لتحقيقه؛ فكتب لشقيقه: منذ سنوات أعيش بلا عمل أو أتخبط هنا وهناك ويؤرقني كيف أكون نافعًا في هذا العالم؟ أن يكون لي هدف وأصبح مجديًا على نحوما.. هناك شيء داخلي.. ترى ما هو؟ وعثر عليه وأدرك الغاية من وجوده بعبقريته؛ فأخلص لها ونقل رؤيته للعالم ولم يكن مجرد عابر بالحياة أو خاضع لمن حاولوا التقليل من شأنه وتسببوا بإيلامه "وبقي" هو بأثره الفني وتلاشى وجودهم بعد موتهم.