لطالما وُصف أمة العرب بأنها أمة شاعرة، فمتى غلبت العرب مشاعرهم فاضت قريحتهم شعرا، فراحوا يرعون القوافي وصولا لبيت القصيد، ولكن "متى ظهر الشعر العربي؟، وكيف تطور من البيت إلى القصيدة؟".
موضوعات مقترحة
بدأ الشعر العربي بالبيت أو البيتين يقولهما الشاعر إذا ما تعرض لموقف طارئ يثير حفيظته، وغالبا ما كان يجرى الشعر بهذا الشكل البسيط مجرى الأمثال، وتشير المصادر الأدبية مثل "طبقات فحول الشعراء" لابن سلام الجُمحى، أن أقدم أبيات الشعر التي وصلتنا من الجاهلية تنسب لامرأة هي النوار زوجة مالك بن سعد بن زيد بن مناة، وكان مالك مشهورًا بين العرب بعنايته بأمور إبله، حتى قيل "آبل من مالك" أي أنه صار مضرب المثل بعنايته بالإبل، لكنه حين تزوج أوكل هذه المهمة لأخيه سعد، الذي ذهب يرعى الإبل مشتملا في ثوبه، أي أنه لم يشمر ثوبه حين يُصدر الإبل إلى المراعى والآبار للشرب والمرعى، فقالت النوار حين رأته:
أوْرَدَهَا سَعْدٌ وسَعْدٌ مُشْتَمِلْ ... مَاهكَذَا يا سعدُ تُورَدُ الإبل
جرى هذا البيت مجرى المثل الذي لا يُضرب لإسناد العمل لغير أهله من المتخصصين فيه، وصارت أقدم الأبيات التي حفظها العرب ووعاها في جاهليتهم الضاربة قِدما في قلب الصحراء.
لكن البيت الذي كان يُقال لموقف عارض بغرض ضرب الأمثال سرعان ما تحول إلى قصائد كاملة زاد في طولها اشتعال نار الحرب بين القبائل العربية على وقع الغارات المتكررة، وزاد من لهيب الشعر جذوة العصبية القبلية، وبات الشاعر آنذاك بمثابة المتحدث الرسمي باسم القبيلة، والمدافع عنها إذ ما اشتبكت سيوف الكلام وتطاعنت رماح البلاغة.
وعلى وقع حرب البسوس، الحرب الأشهر فى الجاهلية، التي استمرت 40 عامًا بين قبيلتي بكر وتغلب بسبب مقتل ناقة البسوس خالة جساس بن مرة البكري على يد كليب بن ربيعة التغلبى، زادت القصائد طولاً على يد الزير سالم، شقيق كليب الذي ألهب الحرب بمطولاته الشعرية التي تدعو للثأر، فسُمى بالمهلهل؛ لأنه هلهل الشعر وزاد من طول القصائد لتنتقل من مرحلة البيت إلى مرحلة القصيدة.
ومن "بيت المهلهل" ظهر جيل آخر من الشعراء ممن ألبسوا القصيدة العربية زيًا لم تعرفه من قبل، فكان ابن أخته امرؤ القيس الكندي الذي عُرف بالـ"الملك الضليل"، وقد سُمى بذلك؛ لأنه توفى دون أن يعود لملكه أو يثأر لمقتل أبيه الملك.
وكان امرؤ القيس أول من سبق العرب إلى تقليد الوقوف على الأطلال في مطلع القصائد، وذلك حين أبدع في مطلع معلقته:
قِفا نَبكِ مِن ذِكرى حَبيبٍ وَمَنزِلِ ... بسِقطِ اللِوى بَينَ الدَخولِ فَحَومَلِ
لم يعد الشعر منذ ذلك الحين أبيات وقصائد تقال هكذا، بل أصبح له قواعده وضوابطه الخاصة التي يرتضيها العرب في سوق عكاظ الذي كان يُعقد سنويا ليتبارى فيه الشعراء على حلبة الكلمة الشاعرة، لتبزغ "المعلقات" إلى الوجود.
وتعد المعلقات عيون الشعر العربي على مدى الأزمان، وقد قيل لها معلقات لأنها مثل العقود النفيسة التى تعلق بالأذهان، ويقال إن هذه القصائد كانت تكتب بماء الذهب وتعلق على أستار الكعبة قبل مجيء الإسلام، وتعدّ هذه القصائد أروع وأنفس ما قيل في الشعر العربي القديم؛ لذلك اهتم الناس قديماً بها ودونوها وكتبوا شروحا لها، وهي عادة ما تبدأ بذكر الأطلال وتذكر ديار محبوبة الشاعر وكانت سهلة الحفظ وتكون هذه المعلقات من محبته له شعاره الخاص.
وتنسب هذه المعلقات إلى عشرة شعراء هم: امرؤ القيس الكندى، وزهير بن أبى سلمى، وطرفة بن العبد البكرى، وعنترة بن شداد العبسى، والحارث بن حلزة، وعمرو بن كلثوم التغلبى، وعبيد بن الأبرص الأسدي، والأعشى ميمون بن بصير، والنابغة الذبياني، ولبيد بن ربيعة.
وقد تعددت أغراض الشعر العربى، بين الفخر، والحماسة، والمدح، والرثاء، والغزل، ووصف البادية العربية بليلها ونهارها، وشجرها وحيوانها، والرحلة إلى المحبوب، ووصف الديار، وتنوعت المعاني والكلمات التى سجلها العرب فى شعرهم، حتى أننا نجد أن عنترة بن شداد، وهو فارس عبس وأحد شعراء الطبقة الأولى من شعراء الجاهلية يشكو قلة الموضوعات لأن الشعراء الذين سبقوه قد تناولوها فى أشعارهم، فلم يتركوا له شيئا يقوله، فقال فى مطلع معلقته الشهيرة:
هل غادر الشعراء من متردم .. أم هل عرفت الدار بعد توهم
وبمرور الوقت ومع ظهور الإسلام اكتسب الشعر العربي أشكالا جديدة، وذلك أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يستمع إلى الشعر ويُجزى عليه، مثلما فعل مع الشاعر كعب بن زهير بن أبى سلمى حين أقبل عليه إليه مسلما معتذرا، فمنحه بردته الشريفة، ورغم أن كعبا قد بدأ القصيدة بالغزل فى محبوبته سعاد، إلا أن الرسول – صلى الله عليه وسلم ـ قد تقبل هذا؛ لأنه يدرك أن هذا الاستهلال من الطابع الشعرى الذى تعار عليه العرب، فقال كعب:
بانت سعاد فقلبى اليوم متبول .. متيم إثرها لم يُفد مكبول
والتبل، والتيم هم أشد أنواع الحب، حتى أوصلا الشاعر إلى أن أصبح أسير مكبلا لهذا الحب، وفى منتصف القصيدة انتقل إلى مدح الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله:
أُنْبِئْتُ أنَّ رَسُولَ اللهِ أَوْعَدَنِي وَالعَفْوُ عَنْدَ رَسُولِ اللهِ مَأْمُولُ
وَقَدْ أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ مُعْتَذِرًا وَالعُذْرُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ مَقْبُولُ
مَهْلاً هَدَاكَ الَّذِي أَعْطَاكَ نَافِلَةَ الْ قُرْآنِ فِيهَا مَوَاعِيظٌ وَتَفْصِيلُ
لاَ تَأْخُذَنِّي بِأَقْوَالِ الوُشَاةِ وَلَمْ أذْنِبْ وَلَوْ كَثُرَتْ فِيَّ الأَقَاوِيلُ
إن الرسول لنور يستضاء به مهند من سيوف الله مسلول
هكذا ترسخت أصول القصائد العربية من الجاهلية حتى ظهور الإسلام، وانتقلت مسيرة الشعر من البيت إلى القصيدة، وفى اليوم العالمى للشعر الذي يحل فى الحادى والعشرين من مارس، يبقى الشعر العربي واحدا من أبرز سمات اللغة العربية الشاعرة، التى ترسخت فى نفوس العرب.