في عيد الأم ندعو كل أم للفرح بـ"نعمة" الأمومة وتجديد طاقاتها لتستطيع أداء دورها كأم بأفضل ما يمكنها وطرد كل الأفكار السلبية التي تقلل من أهميتها كأم وتتذكر أن "ما يتعلمه الطفل على ركبتي أمه لا يمحى أبدًا"؛ وهو ما قاله الأديب والمفكر الفرنسي فليستيه دي لامنيه، ويثبته الواقع والتاريخ أيضًا الذي يؤكد أهمية الأم في صناعة العباقرة والناجحين والأسوياء نفسيًا والمتصالحين مع أنفسهم والساعين للعيش بإيجابية وللانتصار على صعوبات الحياة وعدم السماح لها بكسرهم أو تراجعهم عن صنع حياة جميلة وناجحة "يستحقونها" وتليق بهم وتتمناها كل الأمهات لهم..
تكلم نجيب محفوظ عن أمه بحب واحترام وذكر أهمية دورها في صنع شخصيته ودفعه للأدب لحرصها على اصطحابه لزيارة المتاحف منذ صغره، وكانت تحكي له عن التاريخ وتجعله "شغوفًا" بالمعرفة وتضاعف وعيه وتوسع أفقه رغم أنها لم تكن متعلمة، وقال: المستهين بقدرات النساء أتمنى أن تعاد طفولته من غير أم..
ونتمنى ألا تقلل أي أم من قدراتها، وأن تسعى لامتلاك أفضل الوسائل للتعامل مع أبنائها "وتتقن" فلترة النصائح التي تقرأها أو تشاهدها أو تستمع إليها من صديقاتها، وتراقب نتائج تنفيذها لهذه النصائح، وأن تغير في طرق تعاملها مع أبنائها، وتوازن بين الحزم والحنان، وتعرف أن الأول ليس قسوة ولكنه "رحمة" وكالدواء الذي إن لم نعطه للأبناء ستتراجع صحتهم.
يروي الإمام مالك حكايته مع أمه، فقد كان ينوي الغناء، فأخذت بيده ليصبح فقيهًا بالدين، وألبسته ملابس العلماء وهو صغير، وشجعته على طلب العلم وعلى التأدب بأخلاق العلماء، وأثبتت تجربته بأن بإمكان الأم "ترغيب" أبنائها بذكاء وبصبر ليحتلوا مكانة مميزة في الحياة، والنجاح في صنع أهداف تضيف لهم ولا تخصم منهم..
أما أم أديسون المخترع العبقري؛ الذي توقع الكل فشله، إلا أمه التي راهنت على نجاحه وتحدت الجميع بما فيهم المدرسون الذين طردوا ابنها من المدرسة لغرابة تفكيره، وقامت بتعليمه وتثقيفه بالبيت، وأحضرت له كتب التاريخ والأدب والعلوم ومنحته الثقة بالنفس، وقال عنها أديسون: الأم هي أطيب كائن؛ لقد دافعت عني أمي بقوة عندما وصفني أستاذي بالفاسد، وعزمت أن أكون جديرًا بثقتها ولولا ثقتها بي لما اخترعت؛ أمي هي التي صنعتني لأنها احترمتني ووثقت بي وأشعرتني أنني أهم شخص في الحياة فأصبحت مهمًا لأجلها.
كانت أم الأديب الروسي تشيخوف تبدأ رسائلها إليه بهذه الكلمات: "يا ولدي القوي؛ الذي يتحمل أي مشقة بصمت" كما كانت جدته تقول: إياكم أن تناموا مكتئبين مهما كانت حياتكم بائسة؛ وقد عانى تشيخوف كثيرًا، وتحمل مسئولية أسرته بعد وفاة والده ولم يستسلم، وأصبح طبيبًا وأديبًا ناجحًا وهزم الصعاب وقال: لا يستحق أحد في هذا العالم محبتنا أكثر من الأمهات..
ونتأمل الأم في الأدب؛ ففي ثلاثية نجيب محفوظ كانت نموذجًا للعطاء الإنساني والحنان، ولكنه كان ينقصها الإيجابية في حياة أولادها ولم تقدم الخبرات، وتلخص دورها في التعويض عن قسوة الأب وهذا شيء جميل، فالأم مصدر حنان ولكن يجب أن تكون إيجابية أيضًا.
وقدم محفوظ نماذج للأم المكافحة التي تسعى لتربية أولادها، بل والإنفاق عليهم بكثير من الروايات، وقدم عبدالحميد جودة السحار رائعته "أم العروسة" التي قدمت الأم الذكية التي تستطيع الاحتواء مع الحنان.
وفي الأدب العالمي قدم الكاتب الروسي مكسيم جوركي في روايته الشهيرة "الأم" الأم المتفانية المكافحة المناضلة التي تصنع المستحيل لتغيير المجتمع ولصنع أجيال ناجحة في الحياة ولا يكونوا مجرد أرقام يعيشون بلا أحلام "يناضلون" ليحققوها.
ونتوقف عند أقوال بعض الناجحين عن دور الأم في حياتهم؛ قال نابليون بونابرت: مستقبل الولد صنع أمه والأم التي تهز المهد بيسارها تهز العالم بيمينها، وقال سقراط: لم أطمئن قط إلا وأنا في حضن أمي، أما محمد على كلاي فقال: كل القلوب يغيرها الوقت، إلا قلب الأم جنة دائمة، وقال فريد الأطرش: إنني منذ استمعت لعزف وغناء أمي فأنا أسبح في هذا البحر الكبير كقطرة في بحر..
وننبه مع الود والاحترام لخطأ شائع بين بعض أمهات اليوم؛ حيث التركيز - فقط - على توفير الاحتياجات المادية من طعام واهتمام بالملبس ونظافة المنزل، ولا نقلل من أهمية ذلك، بل ونقدره، ولكن الأم المعاصرة مطالبة بالأكثر؛ بأن تستمع جيدًا للأبناء - من الجنسين - واحترام مشاعرهم والإنصات إليهم جيدًا؛ حتى لو قالوا كلامًا لا توافق عليه، وتتذكر أنها منذ 20 عامًا كانت بمثل أعمارهم، وكانت تعترض على تصرفات أهلها، وكانت تمر بنفس المشاكل، فمن الطبيعي أن تختلف الآراء بينها وبين أولادها، وعليها تذكر أن "الإجبار" والصراخ لا يصنع الطاعة، وأن الإقناع والصبر يفيدان.
مع تأكيد احترامها مشاعرهم وإنسانيتهم وحقهم في الاختلاف، وليس التمرد؛ أي الاختلاف وليس التجاوز، وأن تسعى لكسب صداقة الأبناء، دون التخلي عن "الثوابت" في التربية لإرضائهم؛ فالعواقب ستكون وخيمة على الجميع، وتمنحهم الشعور بالأمان، مع تحميلهم قدرًا من المسئولية يتناسب مع أعمارهم لتنضج شخصياتهم بتدرج.