في إحدى حفلات السيدة أم كلثوم؛ التي تم الاتفاق عليها قبل نكسة يونيو؛ لتنعقد في أكبر مسارح باريس؛ كان وقت الاتفاق؛ يشي بأن الحفلة قد يبدو من الرائع إقامتها بحضور كوكب الشرق؛ وكان وقت الاتفاق مقبولًا، أن تُقام الحفلة في باريس وتحييها أشهر مطربة عربية في ذلك الوقت؛ بعد أن وافق "كوكاتريكس" مدير مسرح الأوليمبيا؛ أشهر مسارح باريس؛ على شروط السيدة أم كلثوم.
وكانت أهم شروطها الحصول على أجر كبير؛ وكان بالمقارنة هو الأعلى في تاريخ حفلات مسرح الأوليمبيا؛ ووافق مدير المسرح على طلبات أم كلثوم؛ إلى أن جاءت النكسة وتغيرت الموازين؛ وكان قد أُعلن عن الحفلة سابقًا؛ وخشي مدير المسرح من فشل الحفلة بسبب أحداث 5 يونيو؛ إلا أن المفاجأة كانت مبهرة؛ من حيث عدد الحضور والإقبال الكبير على حضور الحفلة؛ لتؤكد أم كلثوم قامتها وقيمتها وشعبيتها.
وهذا كان دليلًا عمليًا؛ على قوة مصر الناعمة؛ وأثرها الطاغي خارج حدود مصر؛ ليس فقط بالنسبة للسيدة أم كلثوم ولكن في مناحٍ أخرى عديدة؛ الفن أحد عناصرها؛ بكل فروعه؛ من الطرب للتمثيل؛ فقد كان نجومه كالأقمار المضيئة في سماء العالم العربي؛ أضف لذلك الإعلام؛ ومنا من يتذكر دور إذاعة صوت العرب؛ وما أسهمت به في تعبئة العالم العربي؛ بما جسدته من قيم العروبة.
كل ذلك وأكثر كان دليلًا حيًا علي القدر الكبير لقوة مصر الناعمة؛ فيكفى أن اللكنة المصرية كانت المعروفة والمحببة من المحيط للخليج بعكس باقي اللكنات العربية؛ أيضا كانت كلمات الأغاني رقيقة وهادفة ولغتها رصينة ومحترمة؛ تغذي كل القيم العظيمة؛ لذلك كان الناس يعمقون التعامل فيما بينهم بمفردات لغوية راقية وجميلة؛ وكان النموذج المبهر؛ من يحتذي بمفردات محترمة في تعاملاته.
فكانت المرأة لها وقارها ومكانتها في المجتمع؛ فكان العيب في الاقتراب من محرمات جرى تقديسها؛ فهي صاحبة المكانة الخاصة؛ فلم نسمع عن التحرش تقريبا؛ وكذلك كل الويلات والموبقات التي ابتلينا بها مؤخرا؛ فأم كلثوم سيدة لها المكانة الرائدة في جموع الوطن العربي؛ حينما تشدو؛ يصغي لها الجميع.
وهكذا؛ عدد كبير يصعب حصره من فنانين وفنانات وإعلاميين وإعلاميات؛ وكتاب وكاتبات؛ كان لهم أثر كبير جدًا في فرض واقع براق؛ نتذكر أن في منتصف القرن السابق؛ كانت ملابس المرأة أكثر تحررًا من الآن؛ ومع ذلك لم تكن حافزًا للاعتداء عليها؛ وهو عكس ما يسوقه البعض من مبررات واهية؛ لذوي العقول الفارغة؛ من يعطون مبررات غير شريفة أو أمينة لأي انفلات أخلاقي.
حتى الشعر كان في بعض الأحيان سمة رئيسية في بعض الأغاني؛ هل تتخيل عزيزي القارئ؛ هناك أغانٍ شهيرة لأم كلثوم عبارة عن قصائد جميلة لكبار الشعراء؛ كان الناس يتغنون بها!
اليوم الحال اختلف؛ وبات هناك أغانٍ تخدش الحياء؛ والأغرب هو ترديدها؛ والتمتع باستماعها؛ تحت سمع وبصر المسئولين؛ بكل المعايير؛ إننا نعيش داخل أزمة ثقافية وفكرية كبيرة؛ أدت لبزوغ قيم غريبة على مجتمعنا؛ وبتنا مشاهدين؛ وانتقلنا لمقاعد المتفرجين؛ ننتظر ما ستسفر عنه الأيام القادمة؛ وفي الغالب؛ هو ليس جيدًا؛ انطلاقًا من أن المقدمات تؤدي للنتائج. ولأن المقدمات سيئة بكل تأكيد فالمتوقع سيئ أيضًا.
وإلى لقاء قادم نستكمل فيه حديثنا
[email protected]