21-2-2021 | 16:02
الأهرام اليومي نقلاً عن

كان من الطبيعي أن يتطرق الحوار بيني وبين الإعلامي عمرو أديب إلى مسألة الفتوى. وكان من الطبيعي أن يسألني عمرو أديب عن حقيقة الفتوى، وهل من حق أي مسلمٍ أن يُفتى في أمور الدين أم أن الفتوى هذه من اختصاص مشايخ الأزهر في حالتنا هذه؟

وهنا لم أجد على لساني إلا ما يتسارع إليه، وهو الحديث الذي يقول: “اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَإِن أَفْتَوْكَ”. والحديث ليس معناه أن تختار لنفسك ما تشاء دون علم، ولكن معناه الحقيقي أنك إذا خُيّرتَ بين أمرين وكلاهما صحيح، فاستفتِ قلبك في أيهما يكون مُناسبًا لحالتك.

وقد جاء في شروح دار الإفتاء المصرية أن الحالة التي يَستفتي فيها المؤمن قلبه دون الرجوع إلى أحد هي عندما لا يجد من العلماء الصالحين من يُفتيه – وهم كثيرون في زماننا في المؤسسات الدينية الرسمية - فحينها يستفتى المسلم قلبه، ويعمل بما يرتاح له. والحديث مرتبط بقصةٍ معروفةٍ يرويها الإمام أحمد فى مسنده عن وابصة بن معبدالأسدى. لكن الأهم من تفاصيل القصة هو دلالاتها. ودلالة القلب فى القصة لا تختلف كثيرًا عن دلالة العقل فى لغتنا العربية، خصوصًا فى أساليبها البلاغية، فلا فارق بين العقل أو القلب فى معنى الحُكم أو مراجعة ما يقال والاستيثاق منه. والحق أن الدلالة التفسيرية للحديث تؤكد أن المسلم لا يقبل أو يرفض أية فتوى لعالِم من العلماء – مهما كبر شأنه أو صغر- إلا بعد أن يُعمل عقله فى هذه الفتوى أو بعد أن يُعمل قلبه بلا فارق فى المعنى.

ولكن هذا عن تقبل الفتوى، فماذا عن إبداء الرأى الذى يقبله الدين فى موقف من المواقف التى تعرض للفرد أو الأمة؟ هنا نجد اتجاهين: اتجاه يقصر الفتوى على أهل العلم والاختصاص، واتجاه آخر يفتح الأمر للمسلم بوجهٍ عام ما دام قد اكتملت له الشروط الواجبة التى تجعل منه عاقلًا رشيدًا. ولذلك فإن احتكار الأزهر - مثلًا - للفتوى أمرٌ غير مُسلَّمٍ به فى كل الأحوال؛ لأن الأصل فى فعل الإنسان هو أن يستشير عقله الذى جعله الله حجة عليه وميَّزه به على باقى خلقه. وما دام الله - سبحانه وتعالى - قد ميز الإنسان بالعقل فمن المعقول أن يستفتى الإنسان نفسه أو عقله فى كل ما يعرض له من شئون الحياة. ولذلك حدَّثنا الإمام محمد عبده - وهو من أعظم شيوخ الجامع الأزهر إلى اليوم- عن هذا الموقف بما معناه أن على الإنسان عندما يواجه موقفًا من المواقف أن يستفتى عقله أو قلبه فيما يسلكه أو يفعله إزاء هذا الموقف أو ذاك.

وليس الإنسان المسلم مُكلفًا بأن يسأل غيره الفتوى، وإنما عليه أن يرجع إلى إسلامه هو، بوصفه فردًا لا وسيط بينه وبين الله فى أفعاله. فالإسلام لا يعرف الوساطة بين العبد وربه، فالعلاقة بين العبد والرب مباشرة، وليس فيها وسيط، سواء أكان هذا الوسيط عالِمًا فى الدين، أو مؤسسة من المؤسسات التى تدَّعى أنها سُلطة دينية. فليس فى الإسلام سُلطة دينية كما تعلَّمنا من الإمام محمد عبده.

ولذلك فعلى المسلم الفرد أن يستفتى قلبه وعقله أولًا، وأن يعود إلى إسلامه بوصفه الإطار المرجعى لسلوكه الدينى أو حتى الدنيوى، مُستعينًا على ذلك بما يفهمه من عقيدته. ولذلك قال الإمام محمد عبده: ولكل مُسلم أن يفهم عن الله - عز وجل - من كتاب الله، وعن رسوله الكريم – صلى الله عليه وسلم - من كلام رسوله دون توسيط أحد من سلفٍ ولا من خلف، وليس فى الإسلام ما يُسمَّى عند قوم بـ (السُّلطة الدينية) بوجهٍ من الوجوه. هذه الكلمات الحكيمة للإمام العظيم تؤكد أن من حق الإنسان أن يفتى فى أمور دينه ودنياه ما ظل يعتقد أنه على حقٍ من حيث فهمه لدينه، ومن حيث ما يدعمه من مبادئ يجدها فى كتاب الله وفى السنة الصحيحة لرسوله الكريم. وهذا يعنى أنه لا سُلطة دينية على الإنسان إلا سُلطة الدين الذى يتلقاه الإنسان بنفسه من آيات القرآن الكريم ومن الأحاديث الصحيحة لرسوله، ويفهمها بقلبه أو عقله بما يفضى به إلى فعل ما يرضى عنه الله وحده وليس البشر الذين يضعون لأنفسهم مكانة عُليا لا أساس لها فى الدين، أو يمنحون أنفسهم هذه المكانة دون حق.

ولا يعنى هذا الكلام كله إلا تكرار ذلك الشعار الذى كان يرفعه الإمام محمد عبده من أنه لا سُلطة دينية فى الإسلام. وهو الشعار الذى شرحه بقوله: إن الإسلام هَدَم بناء السُّلطة الدينية، ومحا أثرها حتى لم يبق لها عند الجمهور من أهله اسم ولا رسم، فالإسلام لم يدع لأحدٍ بعد الله ورسوله سلطانا على عقيدة أحد، ولا سيطرة على إيمانه، وإن الرسول - عليه السلام - كان مُبلِّغًا ومذكِّرًا، لا مُهيمنًا ولا مُسيطرًا، ولم يجعل لأحدٍ من أهله سُلطة أن يحل ولا أن يربط لا فى الأرض ولا فى السماء، وما يترتب على ذلك هو أنه لا رقيب بين الإنسان سوى الله وحده، وليس لمسلمٍ مهما علا كعبه فى الإسلام على آخر مهما انحطت منزلته فيه إلا حق النصيحة والإرشاد.

وهذه كلها مبادئ ترجع إلى الجذر الأساسى الذى يؤكد أنه لا سُلطة دينية فى الإسلام، وأنه من مسئولية الإنسان الذى خلقه الله أن يتأمل ويتدبر؛ لكى يعتبر بسنن الله فى الخلق، ولكى يسلك فى الأرض السلوك الذى تترتب عليه المواقف التى تميل إلى الحق، والتى تؤكد الحق فى الوقت نفسه. ويعنى ذلك أن الإنسان الحر المسئول عن أفعاله هو نفسه الإنسان الذى يستطيع أن يرى الحق دون الباطل أو يميز الحق عن الباطل، فيتبع الحق فى حياته وفى أفعاله، ويستنبط الحق فى كل موقفٍ من المواقف التى يمر بها أو يواجهها، فالإنسان المسلم هو مُفتى نفسه، وهو بما عمق فى فكره من إسلامه، مسئولٌ عن أفعاله، ومُحدِّدٌ لنفسه حلالها وحرامها، فلا سُلطة على هذا الإنسان إلا من عقل الإنسان أو قلبه، ولولا ذلك ما قرأنا فى القرآن الكريم قوله تعالى: وَكُلّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (سورة الإسراء: الآية 13)، ويضاف إلى ذلك قوله تعالى: قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن ربِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِىَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ. (سورة الأنعام: الآية 104) وقوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ للْعَبِيدِ. (سورة فصلت: الآية46)، وأخيرًا قوله تعالى: لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ. (سورة البقرة: الآية 286).

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
المادة السابعة من الدستور

سبق أن كتبتُ رأيى فى هذه المادة فى هذه الجريدة عبر مجموعة من المقالات تحت عنوان: ذكريات الدستور، وكان ذلك فى 21/6/2020 على وجه التحديد. وفيها علَّقت بأن

حوار عمرو أديب

منذ صدر كتابي: «دفاعًا عن العقلانية» عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في أواخر العام المنصرم، وتأتي إلىَّ أصداء أفكاره من القراء والمُهتمين بموضوعاته. وكان

الأكثر قراءة