التكنولوجيا بوجه عام هي من صنع الإنسان، لكن تأثيرها وأثرها عادة ما يكون خارج توقعاته، حيث يشبه البعض التكنولوجيا بالحصان الجامح الأعمى، فقد يمضي بالإنسان إلى أقصى الطرق ويصل بالإنسان إلى طرق بعيدة وطويلة، ولكنه قد يسقط بالإنسان من قمة أي جبل أو منحدر.
ومن ثم يجب أن تخضع التكنولوجيا دائمًا للمراجعة والتأمل على الأقل للحد من السلبيات إن وجدت، وحسن التعامل معها، ولكل عصر التكنولوجيا الخاصة به، وبعضها يتجاوز تأثيره كل التوقعات البشرية بداية من اكتشاف النار في العصور البدائية ثم اكتشاف الزراعة ثم الكتابة إلى عصر الثورة الصناعية ثم ظهور التليفزيون ثم الفضائيات.
والآن نعيش عصر وسائل التواصل الاجتماعي بمختلف صوره، سواء الفيس أو الواتس، وغيرهما من وسائل، أصبحت خلال سنوات قليلة منتشرة في كافة أنحاء العالم، وكافة البيئات صحراوية أو ريفية أو حضرية، وكافة المراحل العمرية بداية من الأطفال إلى الشباب إلى كبار السن، وكافة المستويات العلمية، بل والغريب أن كثيرًا من الأفراد الذين لا يستطيعون القراءة والكتابة يمتلكون ويتعاملون مع هذه التكنولوجيا الحديثة، حيث تشير الدراسات إلى نحو 4 مليارات شخص يتعامل مع هذه التكنولوجيا، ومن هنا أهميتها وخطورتها، وخاصة أنها مجرد أداة قد يحسن البعض استخدامها والاستفادة منها، وقد يسيء البعض الآخر استخدامها ومن ثم تصبح مصدرًا للخطر، حيث تتحول المميزات إلى عيوب.
فمثلا الغرض من هذه الوسائل تحقيق التواصل الاجتماعي بين الأفراد والجماعات والمجتمعات في أي مكان في العالم، ولكن المشاهد في مجتمعنا أنها أصبحت وسيلة للتباعد الاجتماعي، حيث كثيرًا ما نجد داخل الأسرة أو مجموعة الأصدقاء كل فرد مشغول بهذه الوسائل والانهماك معها تاركًا بقية المجموعة، وكل منهم في عالمه الخاص، وهنا حدث عكس الغرض من هذه الوسائل التي أصبحت وسيلة للانفصال الاجتماعي أو التباعد الاجتماعي، هذا فضلا عن إضاعة الوقت، حيث تشير نتائج دراسة حديثة إلى أن متوسط عدد ساعات متابعة عينة من الشباب لهذه الوسائل يبلغ نحو ثلاث ساعات يوميًا.
وكثرة ساعات استخدام هذه الوسائل بشكل يومي له أضرار صحية عديدة على النظر والحالة النفسية وخلافه، والأخطر أن هذه الوسائل قد تستخدم في نشر الشائعات من قبل الأعداء ومثيري الفتن في المجتمع، حيث تشير معلومات مركز المعلومات ودعم القرار بـمجلس الوزراء إلى أنه رصد أكثر من مائة شائعة يوميًا في الشهور الماضية، كما تشير الدراسات إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت المصدر الأساسي للحصول على الأخبار والمعلومات، وخاصة للشباب، حيث لا يقل نسبة من يتابع الأحداث والأخبار عن نحو 80% من فئة الشباب خاصة مقابل نحو 20% للصحف الورقية والتليفزيون، وهي ظاهرة عالمية في كافة بلدان العالم ولها العديد من الأسباب منها:
أن وسائل التواصل الاجتماعي نفسها يمكن من خلالها قراءة الصحف ومشاهدة المسلسلات والأفلام وخلافه، وبدون مقابل للشراء، وبالتالي فهي أرخص وأوفر ماديًا بجانب تمكن كل شخص من أن يكون محررًا أو ناقدًا، ويكتب ما يشاء وينتقد ويرد ويناقش بحرية والتفاعل المباشر والإيجابي مع أي رأي أو قضية، فأصبح كل شخص كاتبًا وناقدًا وحكمًا في نفس الوقت، كما أن وسائل التواصل الاجتماعي وسيلة سهلة لنشر الثقافة والمعرفة بسهولة للعالم أجمع، ووسيلة للتعليم والثقافة عن بعد، ووسيلة للرقابة الشعبية والشكوى المباشرة للمسئولين عن أي أخطاء أو ملاحظات.
وبالتالي وسيلة للتفاعل المباشر بين المواطنين والمسئولين، ومن هنا أهمية الاهتمام على كافة المستويات بهذه القضية بداية من الأسرة التي عليها التوجيه، وأن تكون قدوة للأبناء لترشيد استخدام هذه الوسائل على ما هو مفيد، ثم على المدرسة والجامعة من خلال إضافة ذلك في المناهج والمقررات الدراسية، مع إقامة الندوات العلمية والثقافية لمناقشة هذه القضايا بين الشباب، ثم على جميع الجهات التعامل من خلال هذه الوسائل، فمثلا بالنسبة للإعلام يجب التركيز على الإعلام الإلكتروني وترشيد كافة وسائل الإعلام التقليدي وعلى جميع جهات العمل نشر والاهتمام بالمواقع الإلكترونية والتركيز عليها مع الشفافية والصراحة في مواجهة كل القضايا والمشكلات والأخطاء، لأن الزمن لم يعد يسمح بغير ذلك.
ومن هنا فالقضية خطيرة وتمس الشخصية القومية وما تتعرض له الآن من أخطار بسبب امتلاك الدول الكبرى للمواقع العالمية وسيطرتها عليها، وما يتبع ذلك من نشر ثقافاتهم وطمس الثقافات الأخرى، ومن هنا دور الجامعة العربية في العمل المشترك لكي يكون هناك مواقع عربية تساعد على الاحتفاظ بالشخصية القومية والعربية، وإلا سوف نجد أجيالًا ممسوحة الهوية والثقافة، وهي قضية حاضر ومستقبل للثقافة والشخصية العربية والله ولي التوفيق.