Close ad

تمكين النقابات أم الأحزاب السياسية؟

15-2-2021 | 17:04
الأهرام اليومي نقلاً عن

نُظم الحكم ليست غاية فى ذاتها، أيا كانت الفلسفة الكامنة خلفها، لان نظام الحكم هو وسيلة لتحقيق مصالح الناس، وإسعادهم، وتأمين مستقبلهم، وضمان الحياة الكريمة لهم ولأبنائهم، هذه هى غاية كل نظم الحكم فى العالم، وعلى مر التاريخ، وهذا هو جوهر الفلسفة السياسية فى جميع الحضارات والاديان والمذاهب، لذلك فإن شكل نظام الحكم ومؤسساته ما هى إلا وسائل لتلك الغاية، وعلى المجتمع أن يختار من الوسائل ما يحقق له غاياته، وألا يقدس الوسيلة ويجعلها غاية فى ذاتها، ولا يعلو بالوسيلة لتكون عند مستوى الغاية، فالغاية هى الهدف الذى تتغير فى سبيل الوصول اليه الوسائل.

والاحزاب السياسية هى وسيلة أبدعها العقل البشرى فى الحضارة الغربية؛ استجابة لتحديات واقعه التاريخى، وانطلاقا من رؤيته للعالم، وفلسفته، ومسلماته، وجوهر فكرة الحزب أنه وسيلة لحماية الأفراد من تغول الحكومات عليهم، فلكى لا يقف الفرد امام جبروت الحكومة منفردا، فتضيع حقوقه، بل قد تدوسه آلة البيروقراطية دون ان تدري, لأنها لن تراه، اخترع الانسان فكرة ومؤسسة الحزب لتجمع الافراد المتفقين على فكرة معينة او برنامج معين، أو ينتمون الى أيديولوجيا معينة، وتساعدهم على التعبير عن مصالحهم بصورة جماعية، وحماية هذه المصالح، والتنافس من اجل امتلاك السلطة لتطبيق برنامج المصالح هذا بعد الحصول على موافقة اغلبية المجتمع.

هذا الدور للأحزاب كانت تقوم به فى حضارات اخرى غير الحضارة الغربية، مؤسسات غير الاحزاب، مثل القبيلة، والطائفة، والنقابة، والعصبية والعلماء، ومشايخ التجار، وأرباب الحرف، او جماعات المصالح، او غيرها. جميع هؤلاء كانوا يؤدون بعض، أو كل وظائف الأحزاب، طبقا لطبيعة المجتمع وجوهر مفهوم السياسة فيه، وطريقة الحكم بين مواطنيه.

وفى أمريكا الجنوبية تم إبداع مفهوم الكوربراتية Corporatism، ليكون نظاما للحكم تتبعه معظم دولها وعلى رأسها البرازيل والأرجنتين، وهو نظام لا ينفى وجود الاحزاب السياسية، ولكنه لا يجعلها الفاعل الرئيسى فى النظام السياسى، والكوربراتية نظام قديم ورثته أمريكا اللاتينية عن إسبانيا والبرتغال، وتعود جذوره الى نظام الحرف والنقابات والطوائف المهنية فى الأندلس، حيث تكون إدارة الدولة، والشأن العام من خلال منظومة قانونية تنظم علاقات جميع الجماعات المهنية، والطوائف الحرفية، والنقابات مع أعضائها من ناحية، ومع الدولة من ناحية اخري.

فالكوربراتية تركز على تنظيم علاقات العمل، والسياسات الاجتماعية، وعلاقات الدولة بالجماعات الاجتماعية، والنقابات، وأصحاب الحرف، والاتحادات، والطوائف المهنية، وتضبط علاقاتها بمركز صنع القرار، وهى تركز على الأبعاد القانونية، ولكن بنفس القوة تركز على الأعراف، والأنماط السلوكية غير الرسمية، وتربط بين الحقوق والواجبات، وبين القانون والقوة، وبين القانون والمصلحة، وفى كل ذلك تعلى قيمة التعددية، والتفاوض، والمساومة أكثر من قيم الصراع والمنافسة اللتين هما جوهر مفهوم الاحزاب السياسية والعمل الحزبي.

وبهذا فإن الكوربراتية تتخذ من النقابات، والجماعات الاجتماعية الاخرى كأصحاب الحرف، وأرباب المهن، وجماعات رجال الاعمال، والتجارة. وغيرهم، تتخذ من جميع هؤلاء فاعلين سياسيين اهم من الاحزاب، لان هذه الجماعات تعبر عن مصالح حقيقية، وليست شعارات وضعها قادة الأحزاب، والعضوية فى هذه الجماعات عضوية إجبارية، دائمة بحكم المهنة، او الانتماء لحرفة، وليست اختيارية؛ يغيرها الانسان بصورة انتهازية طبقا لمصالحه الوقتية كما هو الحال فى الاحزاب السياسية، حيث يتحول الأعضاء من حزب الى آخر طبقا لمصالحهم ومؤامراتهم.

لذلك على الدولة المصرية إذا أرادت بناء نظام سياسى قادر على تحقيق طموحات الشعب ان تركز على تقوية النقابات، وتترك الاحزاب حتى تنضج وتكون قادرة على أن تقوم بدورها الحقيقى كمؤسسة للتنشئة السياسية، وتأهيل الكوادر، وإعداد القيادات، وتقديم البدائل السياسية الناضجة، وتمتين النظام السياسى ليكون قادرا على مواجهة تحديات المستقبل.

وحتى يتم ذلك لابد من تنظيم نقابات واتحادات لكل المهن والحرف، والجماعات الاجتماعية، وإطلاق طاقاتها، وفتح المجال أمامها لتقوم بالدور التنظيمى، والتنموى المطلوب، فتكون نقابة الاطباء اهم من وزارة الصحة فى ضبط ممارسات مهنة الطب وأخلاقياتها، وحماية المواطن من سلبياتها، وتكون نقابة الفرانين أكثر فعالية من وزارة التموين فى ضمان حصول المصرى على «العيش» الذى يضمن له العيش ... وهكذا.

وهذا بدوره يتطلب أن يتم إنشاء نقابات لجميع المهن والحرف والتخصصات، ثم بعد ذلك يتم تكوين اتحادات نقابية لكل مجموعة من المهن تتقاسم مجالا معينا من مجالات الحياة، فتكون هناك نقابات لكل التخصصات الطبية أو الهندسية أو الزراعية، ثم يكون هناك اتحادات تجمع كل تخصص.

وهنا ينبغى أن يحدد القانون حدود دور ووظائف النقابة بحيث لا تتعدى الحفاظ على مستوى أداء المهنة، ووضع ضوابط ومعايير لها، وتحديد الكفاءات والمهارات المطلوبة للانضمام اليها، بحيث لا يدخل فيها إلا من هو قادر على القيام بها على أفضل وجه، وكذلك تراقب أخلاقيات ممارسة التخصص الذى تنظمه، وترعى العاملين فيه عند العجز، أو الحاجة، أو فى الأزمات ... ولا يجوز لها أن تتدخل فى أى شأن محلى خارج نطاق تخصصها، أو خارج حدود الدولة، فلا تقوم بدور الحزب السياسى، أو تسعى لتحقيق أهداف سياسية خارج تخصصها، ولعل وضع النقابات فى النموذج التونسى هو الأكثر قرباً من هذا النموذج وإن لم يحقق بعد كامل أهدافه.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
رؤيتان لمستقبل مصر: الترميم أم التجديد؟

حقيقة لا جدال فيها أن الشأن السياسي هو أعظم شئون المجتمع وأكثرها تعقيدًا، لأنه يحتاج إلى من يملك الرؤية الكلية، ويستطيع أن يلم بجميع أبعاد الموضوع، ويمزج

عندما يُفلسُ المثقف!

هل من يتصدرون المشهد الثقافى والإعلامى مثقفون؟ أم شُطّار يتخذون الثقافة حرفة ومهنة وسبوبة؟ … سؤال مشروع؛ لا تجاوز فيه، فى ظل حالة الفوضى القيمية، والأخلاقية،