ضمن الرقي والتقدم في أي مجتمع هو قدرته على البعد عن السخرية لمسافة تطول وتقصر على حسب قوة الشخص نفسه، ولا يطول اللسان بالتقريع والقلش من الضعفاء وممن تظنهم في بادئ الأمر أنهم أقل شأنًا.. فلا تجد سخرية من عامل مصعد ولا من موظف متواضع في قرية نائية، ولا من بواب ولا من شخص يريد التقاط صورة مع نجمه المفضل.. أو حتى من طفل صغير يجمع الكرات فى إستاد كبير.
بعد انتهاء مباراة مانشستر سيتي ضد ليفربول يوم 7 فبراير.. نشر "فيليب فودين" أو فيل فودين لاعب فريق مانسشتر سيتي صورتين على حسابه الشخصي في "تويتر".. أول صورة وهو يظهر من بعيد وراء نجم الفريق وهو طفل لم يتجاوز العاشرة بعد، يجلس على أرضية الملعب يجمع الكرات لفريقه السيتي، الذي يحبه ويشجعه.. أما الصورة الثانية كانت وهو فرحًا بعد إحرازه الهدف الرابع ضد ليفربول لتنتهي المباراة بنتيجة 4- 1 للسيتي.
كتب فودين على الصورتين.. كيف بدأت؟!.. وكيف أصبحت؟!
تغريدة فوبين لاقت استحسان ما يفوق من 380 ألف شخص على تويتر، لم يتعرض اللاعب فيها إلى السخرية بسبب جمعه للكرات صغيرًا.. أو لم يتعرض للتقليل منه ومن وضعه، لأنه كان أقل شأنًا أو كان وكان وكان.. بالطبع تعرض للنقد من المتعصبين للنوادي الأخرى، ولكن بعيدًا عن فكرة جمع الكرات.. كما لم يتعرض للسخرية من المحللين الكبار المفترض فيهم العقل والحكمة.
في اليوم التالي مباشرة فى يوم 8 فبراير.. وبعد انتهاء مباراة الأهلي ضد فريق بايرن ميونخ.. وجه اللاعب محمد شريف، لاعب الأهلي، رسالة شكر إلى البولندي روبرت ليفاندوفسكى، مهاجم بايرن ميونخ الألماني، بعدما تبادل كلا اللاعبين القميصان.. وكتب معلقًا: "شكرًا لأفضل لاعب في العالم لإهدائه القميص".
ثارت عاصفة من المحللين والمحترفين ممن مارس اللعبة لسنين طويلة، على أن بعض اللاعبين في الأهلى لم يذهبوا للمباراة إلا لكي يحصلوا على "تيشيرت" هدية من لاعبي بايرن ميونخ.. وبغض النظر عن التحليل الفني للأهلى وضعفه وهزيمته في المباراة.. إلا أن السخرية طالت فرحة لاعب شاب مازال يخطو خطواته الأولى لمجرد أنه حصل على "تيشيرت" أحسن لاعب في العالم.. والغريب أن هذا الكلام يصدر ممن يفترض فيهم العقل والحكمة.
للحقيقة السخرية حولنا في كل مكان.. سخرية من اللون.. سخرية من الفقير.. سخرية من الضعيف.. سخرية من القصير والطويل، من الممتلئ والنحيف، من البسطاء والضعفاء ومن الفرانين والبوابين والخدامين والسباكين وسائقي التوكتوك وسائقي الميكروباص.. من كل شيء وأي شيء.. رغم أننا جميعًا في حاجة إلى بعضنا البعض ولن تستمر الحياة إلا بنا جميعًا وليس مهنة على أخرى.
نعم، لقد فضل الله بعضنا على بعض درجات في المأكل والملبس والمسكن والوظيفة والمهارة والذكاء.. لكنها لحكمةٍ لا يعلمها إلا هو ولا يعرفها إلا سبحانه.
وهو سبحانه نهانا عن السخرية من الآخرين مهما كانت صفاتهم وأوضاعهم فلا ننظر إليهم نظرة احتقار أو استخفاف فربما كانوا خيرًا وأقرب وأحب إلى الله.
أتذكر منذ نحو عشرين عامًا، كانت هناك مطالبات غاية فى السخافة والسوء.. دعوات طالبت بأننا يجب أن نُخضع لاعب كرة القدم فور وصوله للنادي إلى جلسة تصوير لنذكره بوضعه قبل أن يعلو شأنه ويسطع نجمه ويصبح لاعبًا كبيرًا يدر ملايين الجنيهات لنفسه ولناديه.
حملة: "كيف كان؟! وكيف أصبح؟!" ولكن الهدف منها ليس نبيلًا مثلما فعل اللاعب الإنجليزي "فودين".. لدعوة الأطفال إلى الاقتداء به والسير على نهجه في الكفاح والمثابرة.. لكن الهدف من الدعوة كان وضيعًا، لمعايرة اللاعبين الكبار وتذكيرهم بماضيهم المتواضع.. نوع آخر من السخرية بالصور والتاريخ.
إن جرأة البعض على التهكم على الآخرين بعبارات السب والتحقير في وسائل التواصل الاجتماعي لهي مرض خبيث ينفث سموم الكراهية والتعصب في نسيج العلاقات الإنسانية بين الناس ولا يجعل من بينهم بطلًا.. ولا يكون في ذاكرتهم رمز.. هنا تحديدًا يصبح كل شيء مشوهًا؛ لأنه قابل للسخرية والتحقير والتقليل.. كل شيء غير قابل للفخر كصورة فودين صغيرًا يجمع الكرات خشية السخرية منه.
تويتر: @TantawiPress