لا شيء بالكون ينير الوجوه ويبهج القلوب وينعش العقول ويمنح الصحة النفسية والجسدية كما يفعل الرضا..
الرضا لا علاقة له بالمناصب ولا بالأموال ولا بما يمتلكه الإنسان من علاقات أو بالمكانة بالمجتمع؛ فهو شعور ناعم وجميل يأتي إلينا عندما "نختار" رؤية الحياة كما هي، فنذكر أنفسنا أنها مرحلة وستنتهي مثل أي سفر قمنا به، وإن اختلفت في التفاصيل، والأهم أننا في أي سفر نختار "غالبًا" بدايته ونهايته ونسعى للفوز بأفضل إقامة به وبأقل تكاليف ممكنة..
بينما الحياة تبدأ وتنتهي بلا إرادة منا، ولا حياة بلا خسائر، وهذا لا يدعونا للإحباط؛ بل للسعي ليكون كل يوم أفضل مما سبقه لنا ولمن نحب، وأن نرضى "بصدق" عما لا يمكننا تغييره بالوقت الحاضر، ونحتفظ "برغبتنا" بتغييره بالوقت المناسب ولا نزرع بعقولنا وقلوبنا العجز وقلة الحيلة.
ولا نرضى لغيرنا ما نكرهه لأنفسنا ولمن نحب، فمن يفعل ذلك يخسر دينيًا ودنيويًا، والأولى معروفة ففي الحديث الشريف: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه"، وفي الدنيا سيزرع "السواد" بقلبه وسيزحف دون أن يشعر ويسيطر على حياته وسيفاجأ -ولو بعد حين- أن المقربين منه يتعاملون معه كـ"شيء" يحاولون انتزاع منه أكثر ما يمكنهم وليس كإنسان يتقاسمون معه الحب، فالحياة لا تجامل من يغتصبون حقوق غيرهم، ويبدو ذلك واضحًا "فقط" لمن يرغب بالرؤية.
يهزم البعض أنفسهم بالقول: من رضى بقليله عاش، وهي مقولة سلبية انهزامية سارقة للعمر بامتياز، والأصح والأكثر احترامًا للعمر، القول من رضى بما حصل عليه بعد "استنفاذ" كل طاقاته وبعد السعي الجاد بمثابرة وبلا أي تكاسل أو تخاذل أو تعجل للنتائج أو إصرار على تكرار نفس الأخطاء وتوقع نتائج مختلفة، وهو خطأ شائع، فمن يأخذ بكل الأسباب ويتبرأ من حوله ومن قوته ومن الاعتماد على البشر، ويذكر نفسه بالقول البديع، ترك الأخذ بالأسباب معصية والتوكل عليها شرك.
من يفعل ذلك ثم لا يجد النتائج التي "ينتظرها" أمامه خياران لا ثالث لهما، الرضا بصدق "والتسليم" بيقين بأن الخالق عز وجل سيختار له الأفضل بأحسن وقت وسيعوضه خيرًا مع التعلم من أخطائه بالتجربة، وكلنا نخطئ ونصيب ويكتبها ويحتفظ بها حتى لا تتوه بالذاكرة ويبتسم ويحتضن نفسه بحب واحترام، ولا ينتظر ذلك من الآخرين، فالجميع مشغولون بمشاكلهم وبحياتهم.
وليقل لنفسه: حسنًا لا أحد يربح دائمًا، كن ذكيًا وقلل خسارتك وركز على ما لديك من نعم الآن "وتنفس" الامتنان والرضا وتذكر الآية الكريمة: "لئن شكرتك لأزيدكم"، وأغلق أبواب الحزن بالقناعة والرضا كما قال الإمام علي كرم الله وجهه، وقم "بإهداء" نفسك استراحة محارب واشتر لنفسك هدية ولا يهم ثمنها واعتبرها "مكافأة" لك لأنك رفضت مضاعفة خسائرك "واستعنت" بالرحمن وواصلت سعيك؛ لتكون أفضل، ولم تقبل لنفسك بالسجن في إطار الضحية وتوابعه "اللعينة".
والاختيار الثاني "السماح" للسخط بالتسلل لعقله وقلبه فيؤذي نفسه دينيًا ودنيويًا، والأولى معروفة، والثانية سيضر نفسه ضررًا بالغًا، فسيلون حياته بالكآبة ويضيقها وسينعكس ذلك بالسلب على صحته النفسية والجسدية وعلى علاقاته وعمله وتتراجع طاقاته وسيضاعف خسائره بيديه ويعيش الجحيم وهو بالدنيا.
ومن أعداء الرضا مراقبة حياة الآخرين وما يمتلكونه من أموال وعلاقات ومن يفعل ذلك لن يذوق "الشبع" ولا الرضا أبدًا.
ونخذل أنفسنا بالرضا عن عيوبنا، ويمكننا إن لم نستطع التخلص منها التنبه لها والتقليل من سيطرتها على حياتنا، وغير مقبول خيانة النفس بكلام مثل عيوبي أقل من عيوب الآخرين، وكأن من يقول ذلك سيقبل أن يتناول طعامًا مسمومًا لأن السم به أقل من السم بطعام غيره.
والرضا بما يمكن تغييره من أفكار وتصرفات وعلاقات خيانة للنفس وصناعة الجحيم بالحياة؛ حيث حياة غير سعيدة، وحرمان من الجنة بالدنيا، أي جنة الإنجازات والرضا الذكي عن النفس ووضع النفس بمحنة حقيقية في الآخرة عندما يسألنا الخالق عز وجل عن العمر وكيف أنفقناه.
واشتراط الفوز بالحد الأقصى لتنفس لرضا يسرق الأعمار ويجعل الكثيرين يلهثون وراء المزيد ولن يرضوا أبدًا، والأذكى الرضا بما لدينا حاليًا وشكر الرحمن على ما رزقنا، ثم نسعى للفوز بالمزيد بنفس مطمئنة.
ومن المهم مخاصمة الرضا عن النفس عند الخطأ حتى لا يصبح عادة وألا نبرره وألا نقسو على النفس فنجهدها.
وقيل علامة الشكر الرضا بقضاء الله والتسليم لقدره، والرضا عبادة قلبية، فالراضي يشكر ربه "بصدق" وليس باللسان فقط.
وفي الحديث الشريف: "إن استطعت أن تعمل الرضا مع اليقين فافعل، فإن لم تستطع فإن مع الصبر على ما تكره النفس خيرًا كثيرًا".
والفائز من تمتع بالرضا فهو أهم مصادر السعادة ومن مفاتيح النضج، ونتفق مع القول البديع والصادق والرائع: الرضا هو الشعور بالارتياح لما يختاره الله لك؛ فالرضا هو رضا القلب، وقال ابن القيم: الرضا باب الله الأعظم ومستراح العابدين وجنة الدنيا من لم يدخله في الدنيا لم يتذوقه في الآخرة.