الكاتبة الشيلية إيزابيل الليندى يقال عنها - ضمن ما يقال - إنها أكثر من كتب بالإسبانية رواجاً بين القراء. وبصرف النظر عن مدى دقة هذه المقولة، فإن روايات الليندى تتمتع بلا شك بمزيج آسر من البساطة والعمق والشاعرية؛ من الواقعية والنقل المباشر من التجربة الشخصية, وفى نفس الوقت استلهام أحداث التاريخ, والجمع بين عادية الشخصية الروائية وتمتعها بالطرافة، والافتنان فى رسمها بحيث تشبهنا وتدهشنا.
وقد ساعدتها أحداث حياتها، التى شهدت الكثير من التنقل بين البلاد وانقلاب الأحوال وتبدلها، على اتساع عالمها الروائى واحتشاده بالشخوص المرسومة ببراعة والحكايات الحلوة والمُرة، المستمدة من السيرة الذاتية وأحداث السياسة والتاريخ، ومن خيالها الثرى المبدع، فتتعدد عوالمها من رواية لأخرى: من شيلى وطنها الأم، للولايات المتحدة وطنها الثاني، حيث تعيش منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضى فى ولاية كاليفورنيا، لإسبانيا وإنجلترا وبعض بلاد أمريكا اللاتينية. وأنا هنا لا أتحدث عن كل رواياتها التى تتجاوز العشرين، بل ما قرأته فقط من أعمالها، وهى ست روايات: بيت الأرواح، روايتها الأولى (١٩٨٢)، وروايتها الثانية عن الحب والظلال (١٩٨٥)، وعملها الروائى الرابع «باولا» (١٩٩٤)، الذى هو نقل مباشر من التجربة الشخصية مثل «بيت الأرواح»، إضافة لعملين حديثين هما العاشق اليابانى (٢٠١٥) وتدور أحداثه فى بيت مسنين فى كاليفورنيا، وأخيراً أحدث ما كتبت: «سفينة نيرودا» (٢٠١٩) وهى عمل يستلهم أحداث الحرب الأهلية الإسبانية فى ثلاثينيات القرن الماضى وهجرة المهزومين فى الحرب - وبتدخل من شاعر شيلى العظيم بابلو نيرودا - إلى بلاده ووطن كاتبة الرواية إيزابيل الليندي.أما العمل السادس الذى قرأته للكاتبة، وهو ابنة الحظ (١٩٩٩)، فهو ينتمى لمنتصف رحلتها الروائية، وكان حظى وحظه أن أكتب عنه هذه المقالة.
وابنة الحظ هى حقاً وبجدارة واسطة عقد فى كتابات الليندي؛ ففيها تجتمع معالم عالمها الروائى المختلفة، وتمتزج سوياً لتضخ لنا عملاً نلمس فيه فهم الليندى العميق للمرأة ودفاعها عنها, فى بلد نشأتها شيلى فى منتصف القرن قبل الماضى حين كان المجتمع ذكورياً أبوياً بشدة. وشخصية «إلزا» بطلة الرواية إن تكن خيالية، فإن فيها بعض ملامح الكاتبة: فهى تتمتع بحاسة شم مبدعة, وذاكرة استثنائية تمزج الحقائق بالأحلام وتجعلها وقائع, بقوة التذكر حين يمتطى بساط الخيال. «وروز» الإنجليزية التى تستوطن شيلى تنويعة أخرى على نغمة الأنثى المقهورة (فى زمان الأحداث: منتصف القرن التاسع عشر) لكن كونها غربية جعلها أكثر قدرة على التمرد نسبياً إذا قيست بربيبتها «إلزا» قبل أن يجلدها العشق فتجمح هى الأخرى بل وتفوق أمها بالتبنى جموحاً.
أما عاشق روز الإنجليزى جاكوب تود, فهو نموذج فذ لقدرة إيزابيل الليندى على رسم شخصية روائية تجمع بين العادية والفرادة. فهو حالم مثالى بمدينة فاضلة يتساوى فيها الناس، وبائع للكتب المقدسة وواعظ دينى بالصدفة, وعضو جماعة سياسية اشتراكية فوضوية، وفوق كل هذا هو لص سِكّير وعاشق متيم لروز ضاع من أول نظرة.. هو يبدو لغزاً، لكنّ كل هذه التناقضات نراها فى سياق الأحداث قابلة للفهم، بل وللتعاطف. كذلك الثائر الفقير النبيل الجائع ذو التعفف والكبرياء والعيون المشتعلة، الفتى خواكين أندييتا الذى يعمل فى وظيفة متواضعة بشركة الشحن والاستيراد الإنجليزية بميناء بالبارايسو الشيلى حيث تدور أحداث النصف الأول من الرواية، وتعشقه إلزا ذات الأعوام الستة عشر من نظرتها الأولى لتلك العيون المشتعلة نبلاً وكبرياء - ذلك القديس الملحد والمؤمن بالكوميونة الاشتراكية الفاضلة تمتد يده فجأة لاختلاس عهدته من مال الشركة.. حين يداعبه حلم الذهب. فقد نشرت الصحف خبر بحر الذهب الذى تفجّر فجأة فى كاليفورنيا, لتبدأ أحداث النصف الثانى من الرواية.. ونواصل بإذن الله فى المقالة القادمة.