Close ad

أم كلثوم والتنمية البشرية

6-2-2021 | 00:25

عاشت أم كلثوم ورحلت قبل بزوغ نجم التنمية البشرية؛ ومن يغوص في حياتها يجد أنها كانت مثالًا رائعًا وناجحًا لأهم أفكار التنمية البشرية..

ولدت ثومة؛ كما يطلق عليها محبوها في 31 ديسمبر 1898 وتوفيت في 3 فبراير 1975 وما بينهما عاشت حياة حافلة جديرة بالتعلم ليس من غنائها ولكن لمهاراتها في إدارة حياتها..

كانت طفلة فقيرة تشارك أباها في الغناء؛ قالت: لقد غنيت لـ"اللقمة" وليس للنغمة؛ غنيت لأعيش وليس للفن ولن أدعي عشقي للغناء فقد كانت أحلامي أن تحدث مشاجرة في الفرح ولا أغني ولأتفرج وأستريح من عناء الغناء، والليلة المتعبة هي التي تمر بسلام ولا ترتفع الكراسي في الهواء ففي مثل تلك الليلة الهادئة كنت أضطر لتكرار القصيدتين الوحيدتين اللتين كنت أحفظهما.

وبصدق وأمانة تعترف أم كلثوم أنها كانت لا تفهم شيئا مما تغنيه وهي صغيرة كما كانت لا تخاف من الغناء أمام الناس..
وعندما كبرت أحبت الفن وتذوقته - كما قالت - وأصبحت تتهيب المسرح وتخشاه؛ وهذا هو الشعور بالمسئولية واحترام النفس والخوف من الفشل وعدم التعامل مع النجاح وكأنه مضمون للأبد بلا بذل الجهد ليس للحفاظ عليه فقط بل بزيادته؛ فالمؤكد أنه إن لم يزد سينقص؛ وأن مغادرة القمة أسهل وأسرع من الصعود إليها.

تقول أم كلثوم أصبحت أشعر كلما غنيت وكأنني مقبلة على امتحان رهيب؛ والمستمعون هم الممتحنون الذين لا يرحمون ولا يتساهلون ولا يقبلون عقد امتحان ملحق للراسبين.

وربما هذا الذي دفعها للتدريب المتواصل والاعتناء بحنجرتها، وبكثرة البروفات ليس قبل أداء الأغنية لأول مرة فقط؛ ولكن أيضا قبل أي حفلة؛ فكانت تجري بروفات على أغاني كثيرة ثم بعد صعودها للحفل ورؤية الجمهور تقرر ماذا تغني؛ فكانت تقرأ الجمهور وتتعرف على ذوقه وما يناسبه وما يتوقعه وتغنيه وليس ما ترغب هي به؛ وهذا من أهم أبجديات التنمية البشرية، رؤية الواقع ودراسته جيدًا..

لم تعتمد على الموهبة فقط وعلى قوة وجمال صوتها، وراحت تمتلك - بمثابرة - أدوات تجعلها تحتل قمة الغناء لسنوات طوال، وتعلمت لغة أجنبية وكانت مقلة في الأحاديث الصحفية ومتواضعة مع التحفظ ووضع حدود في التعامل مع الناس ومع الإعلام.

لم تسمح للغرور بالتسلل لحياتها وإيذائها ثم الإستيلاء على نجاحها، وتعاملت بجدية مع فنها؛ ولم تتسرع في اختيار كلمات الأغاني وأحيانا كانت تطلب تغيير بعض الكلمات لأنها غير مناسبة أو لأنها تريد إحساسًا أقوى أو لأنها لن تتمكن من أدائها بأفضل ما يمكن؛ وهو مبدأ رائع بعدم تجاهل الصوت الداخلي بأن الأمر لا يسير جيدًا، ويمكن أن يكون أفضل.

من أهم أفكار التنمية البشرية عدم تكرار ما ثبت فشله؛ وهو ما فعلته أم كلثوم فقد اكتفت بتلحين أغنيتين فقط لنفسها رغم إجادتها العزف على العود وإتقانها كتابة "النوتة" الموسيقية؛ فقد تأكدت أنها ستخسر وتوقفت وأسندت لغيرها مهمة التلحين ولم تعاند نفسها..

لم ترض أن تكون مجرد مغنية وأكدت المبدأ الرائع في التنمية البشرية؛ أن ما نؤمن أننا سنفعله ونستعد له سيحدث، ولم تضع سقفًا لطموحاتها، وأسست نقابة الموسيقيين وتنافست بقوة مع الموسيقار محمد عبدالوهاب وتمكنت من الفوز برئاسة النقابة سبع مرات.

كما غيرت من أسلوب غنائها وواكبت العصر ولم تتشبث بعناد بأسلوبها القديم، وحافظت على شخصيتها بالغناء مع تنوع الملحنين الذين غنت لهم، ولم ينسب أحد نجاحها لملحن ما، واستفادت من شباب الملحنين؛ كبليغ حمدي ولم تقل أنا فنانة كبيرة ولا أتعامل إلا مع كبار الملحنين فقط، وكانت تبحث عن التجديد وغنت القصائد كما غنت بالعامية ونجحت بهما.

كانت تحب ما تغنيه؛ وهذا من أسرار النجاح؛ أن نحب ما نعمل به، ومن المؤكد أنها لم تعش كل هذا الحب؛ فلا أحد عاشه ولكنها كانت تمتزج بالكلمة وباللحن وتبذل وقتًا وجهدًا لتعيش الحالة.

قالت: أحيانا كنت أشعر أنني أغني لنفسي ولا أرى الجمهور ولا أسمع أصوات التصفيق، وإذا كررت مقطعًا فلأنني أرغب في ذلك وليس لأن صوتًا ارتفع ليقول "كمان"..

مارست التمثيل لفترة في بدايات حياتها ثم توقفت في الوقت المناسب وتفرغت للغناء ولم تشتت جهدها ولم تقم بما يفعله غيرها أفضل منها ولم تصر أن تكون نجمة في كل المجالات وتركت التمثيل كما تخلت عن التلحين سابقًا..

عندما تقدمت في العمر لم تتصابا واحترمت ذلك في مظهرها الأنيق وبمنديلها الشهير الذي صاحبها في حفلاتها، وكانت ذكية في تعاملاتها مع الجميع؛ فكانت تحيي الجمهور بحساب وبابتسامة ولا تبالغ بالانحناء عند التصفيق لها، وواصلت الجلوس حتى بدء الغناء كعادتها ولم تغيرها.. لم ترفض التجديد باستخدام الملحنين للأدوات الموسيقية الحديثة آنذاك وأضافت الحيوية لأغانيها.

أجادت العلاقات الشخصية؛ وكونت علاقات مميزة مع أهم مثقفي ومفكري عصرها في مصر وفي العالم العربي "بعد" أن ثقفت نفسها وصقلت شخصيتها ولم تتعامل معهم كمتلقية للثقافة بل بندية..
من المؤكد أن لأم كلثوم أخطاء؛ مثل الجميع، ولكنها امتازت بالرغبة في التعلم والعيش في الحاضر وإجادة استثماره.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: