18-1-2021 | 17:50

منذ الأزل وحتى نهاية الكون يتألم الإنسان، قليلون هم الذين ينجون من هذا الألم، والشقاء، والأمراض النفسية والعضوية، فما هي كلمة السر لسعادة أبدية أو لشقاء غير محدود؟ قد يدفع الإنسان فيه حياته الأولى والآخرة، وقد يدفع فيه صحته، سعادته وراحة باله! كيف يمكننا أن ننجو من وحل اللا سلام الذي يجعل رحلتنا نحو السلام الداخلي مرهقة للغاية، ونعود لفطرتنا حتى نصبح طريقًا للخير والجمال في هذا العالم؟

بالتأكيد الإجابة صعبة ومحيرة وقد ينفق الإنسان كل عمره دون تحقيقها، لهذا حاول المعلم الروحاني والطبيب النفسي العالمي ديفيد هاوكنز جمع تجربة عمره الطويلة في العلاج النفسي والاستشفاء الروحاني في كتاب مُرشد أسماه letting go وتمت ترجمته للغة العربية بعنوان"السماح بالرحيل".

أكد هاوكنز في مقدمته للكتاب أن الخالق سبحانه وتعالى أرسى داخلنا (الجنة) وفيها السعادة والنجاح والصحة والعافية وكذلك الحدس والحب غير المشروط كل هذا على الفطرة فكيف تتبدل هذه الفطرة وتتحول داخلنا السعادة لشقاء والصحة لمرض والعافية لألم والحب المشروط لتجارب مؤلمة وكيف نعود مرة أخرى لما فطرنا عليه الخالق لنعيش جنته على الأرض بصحة وراحة بال وتسامح وإبداع؟

علي مدار قرون كان الهدف من الطب النفسي هو تخفيف معاناة الناس وتم اكتشاف العديد من التخصصات كعلم النفس والطب النفسي والعلاج السلوكي وعلى جانب آخر كانت هناك نظم فلسفية وسُبل روحية ودورات دعم وتطوير الذات وغيرها لتوسيع نطاق الوعي وراحة النفس، ومع كل هذه الاكتشافات وُجد أن آلية التسليم (السماح بالرحيل) فائدة كبيرة وبسبب أهميتها في شفاء أمراض النفس والأمراض العضوية الناتجة عنها في كل في جسم الإنسان قرر دكتور هاوكنز مشاركة الآخرين ما تم ملاحظته سريريًا، ما تم تجربته شخصيًا على مدار سنوات عمله الطويلة.

 وكانت الإجابة على السؤال المحير كيف نتحرر من المشاعر السلبية وتأثيرها في الصحة والعلاقات والعمل، وكذلك كيف يمكننا التعامل مع المشاعر غير المرغوب بها ونقضي بهذه التقنية النفسية (التسليم) على العقبات والتعلقات والتي أثبت العلم الحديث فاعليتها أكثر من التقنيات النفسية والعقلية الأخرى التي تعمل على تخفيف ردات الفعل الفيزيولوجية تجاه التوتر خاصة، وأن المشاعر تسير العقل وأفكاره، وبالتالي الصحة والعمل والحياة والعلاقات؛ ولأن أكثر الناس يقضون حياتهم في قمع مشاعرهم وكبتها أو التهرب منها، فإن الطاقة المقموعة تتراكم وتبحث عن مخرج للتعبير من خلال الآلام والأمراض النفسية والاضطرابات الجسدية والسلوك المضطرب في العلاقات الشخصية، بالإضافة إلى أن المشاعر المتراكمة تعيق النضج الروحاني، فضلًا عن إعاقتها للنجاح في الكثير من مجالات الحياة.

بالطبع يصعب اختصار كتاب علمي تزيد صفحاته على 370 صفحة متوسطة الحجم في مجرد مقال؛ لأن التقنيات النفسية وطريقة تطبيق طرق التحرر من كل ألم سببه موقف نفسي على جسدنا أو حياتنا تحتاج استفاضة وشرح وتطبيقات لها مساحتها، لكن دعوني الآن ألقي الضوء على المبادئ العامة لتقنية التسليم أو التخلي عن التعلقات والسماح بالرحيل مع الوضع في الاعتبار أن هذا لن يغني كليًا على القراءة المتعمقة للكتاب محور التجربة.

معلومة مهمة يجب أن نعرفها أولا عن أنفسنا وهي: أن التعلق بالأشياء أو بالأشخاص في حياتنا قد يكون عائقًا عن الراحة والتقدم في حياتنا، لأنه يكون سجنًا لما نتعلق به، الأشخاص الذين نتعلق بهم يحسون ذلك، ولأنهم يحبون أن يكونوا أحرارًا يهربون منا، مهما كانت درجة الحب أو الصلة، كذلك فإن الرغبة الشديدة مثل (التعطش)، كثيرًا ما تمنعنا من الحصول على ما نريد، إذا تعمقنا أكثر في مفهوم ومعنى التعلق سنقول: أنه التبعية وهذا المفهوم (أي التبعية) تحمل في جوهرها الخوف من الخسارة، ومعنى أن تسلم هنا أو تسمح برحيل التعلق، بالأشخاص، أو بالأشياء، في حياتك: أن تكون لديك مشاعر قوية تجاه أمر ما، ومع ذلك يقين قوي أنه لا مشكلة في أن يحدث هذا الشيء أو لا يحدث.

ولكي تتحرر من التعلق بالآخرين: فقط اطرح على نفسك هذا السؤال: إذا كانت سعادتهم ستتحقق على أكمل وجه برحيلهم عني فما شعوري حيال هذا؟ إن الآخرين فعليًا يبادلونك المشاعر التي ترسلها أنت، فلماذا لا تعطيهم المشاعر التي تريد أن تحصل عليها؟!

في العلاقات تتحقق الأهداف بتلقائية وسلاسة؛ لأننا لا نكن للآخرين أي مشاعر سلبية، وليس هناك ما نتمنى أن نخفيه عن الشخص الآخر، وهذا الانفتاح يسمح للشخص الآخر أن يتخلى عن كل دفاعاته فليس هناك ما نخفيه من باب الشعور بالذنب، أو الخوف، بل أُلفة روحية واعية جدًا، وفي هذا المستوى بالذات يحدث بما يسمى بالتخاطر، فعندما نكون في حالة تناغم وانسجام تام مع الشخص الآخر لا تكون عندنا رغبة في منع أو حراسة أي فكرة أو مشاعر.

وعندما نستسلم لا يعود هناك ضغط، فالإحباط يأتي من الرغبة بحدوث الشيء الآن بدلًا من السماح له بالحدوث في وقته الطبيعي.

الخطوة الأولى والمهمة هنا: أن تسمح لنفسك بأن تشعر بالشعور بدون مقاومته أو الهروب منه أو الخوف منه أو إدانته، أو تهذيبه، فالتقنية عبارة عن بقائك مع الشعور وتخليك عن أية جهود تسعى لتحسينه بأي حال من الأحوال.

مبدأ مهم آخر يرسيه د.هاوكنز للتخلص من ألم الكثير من الندبات النفسية بداخلنا أنه: يكفينا لوم وتأنيب لأنفسنا وللآخرين، لقد قمنا كلنا بما ظننا أنه الأفضل في لحظة معينة، وكذلك هم، فلا داعي لاجترار ألم موقف حدث كما كان مقدرًا له أن يحدث وفقًا للخبرات أو للظروف، حتى لو كان خطًا أو تسبب في أذى لنا أو لغيرنا، ومهم هنا أن نعي جيدًا أن: القبول بالمشاعر، والمواقف، والأشخاص يختلف عن التنازل؛ فمع التنازل يكون هناك بقايا من مشاعر سابقة، بالإضافة إلى وجود مقاومة ومماطلة للإقرار بالوقائع، في التنازل يقول لسان الحال "لا أحبذ هذا ولكني مضطر إلى أن أتحمل، بينما في القبول فقد تم التخلي عن مقاومة طبيعة الوقائع الحقيقية، وبهذا تعد السكينة إحدى علامات القبول ونتائجة.

ويؤكد د.هوكنز أن أكثر ال "لا أستطيع" هي بالأساس "لا أريد" وخلف لا أستطيع ولا أريد توجد مشاعر سلبية علينا أن نسمح لها بالرحيل وأننا أسرى مشاعر سلبية يجب علينا السماح لها جميعًا بالرحيل، وعليه يجب أن نُعدل أفكارنا ليحل الحب مكان الخوف، وتحل الطمأنينة مكان القلق، والرضا والتقبل مكان الرفض والإحساس بالذنب أو بالألم أوالقهر، دعونا الآن نعيد صياغة أفكارنا التي تحدد مشاعرنا وسلوكنا لنتساءل معًا:
ألايمكن أن نهتم بجسدنا لأننا نقدر قيمته ونحب أنفسنا ونحبه، بدلا من الخوف من المرض؟

ألا يمكننا أن نخدم الآخرين بدافع الحب بدل الخوف من خسارتهم؟

ألا يمكن أن ننجز أكثر من باب التعاون بدلًا من المنافسة الخائفة؟

ألا يمكننا أن نقود سيارتنا بحذر لأننا لدينا تقدير كبير لذاتنا ونهتم بسلامتنا وسلامة من يحبوننا بدلا من الخوف من الحوادث؟

أسئلة وإجابات وممارسات كل وظيفتها اتساع الإدراك والوعي والتخلي عما يؤلمنا سواء في النفس أو في الجسد أو في العلاقات، وفي النهاية يتم تسليم كل فكرة أو شعور أو رغبة أو عمل للإله؛ لأنه بالفعل الفاعل الأصلي في خلقنا ووضعنا في ظروف بعينها ومنحنا أو منعنا من خبرات معينة؛ ولذلك لابد أن نسمح برحيل كل من يبعدنا عن وعينا بحقيقة وجودنا واتصالنا بذاتنا الحقيقية، واتصالنا بالإله مهما اختلفت دياناتنا أو جنسياتنا أو درجة تديننا، وفي الانفصال عن الألم والاتصال بالكمال الأهلي قمة الراحة والسكينة وبهجة الحياة.

كلمات البحث
أماني القصاص تكتب: الله يدعو

في كل يوم وساعة يدعونا الله، ويفتح لنا أبواب القرب والود والقبول، له بالطبع أيام أقرب من أيام وأفعال أقرب من أفعال وكلمات أقرب من كلمات، يرشد أرواحنا بوصايا ورحمات جميعها لوصل واتصال وود ومحبة

أماني القصاص تكتب: طلاق غيابي

منذ أيام وفي خطاب هام أكد الرئيس عبد الفتاح السيسي علي تعجبه من انتشار دعوات تحقير المرأة لدرجة السماح بالاعتداء عليها أو ضربها، رغم أن حضارتنا وأخلاقنا ودياناتنا تمنعنا عن ذلك

أماني القصاص تكتب: صناعة التفاهة

خبر عاجل في جريدة مهمة يتساءل: كيف حافظت عروس الإسماعيلية على مكياجها بعد أن ضربها العريس وأهله وسحلوها - لقاء خاص مع الكوافيرة

أماني القصاص تكتب: اضربوهن

لماذا نجادل اليوم في رجل يريد تربية زوجته وإجبارها على طاعته واحترامه والخوف منه؟ ومن الذي يمنع الزوج عن ضرب زوجته

أماني القصاص تكتب: أصحاب السينما

ضجة عارمة أثارها فيلم أصحاب ولا أعز المعروض علي منصة نتفلكس بسبب جرأة موضوعه وطريقة تناولها، لم أشاهد الفيلم للأسف ولم أقف عنده كثيراً لكن توقفت عند طوفان التأييد المطلق

أماني القصاص تكتب: الدولة والمعيلات

شابة مصرية لا توفق في زواجها رغم إنجابها أربعة أطفال أكبرهم ثمانية أعوام والأصغر عامان، كالمعتاد يتخلى الرجل عن الأسرة وتُجبر المرأة أن تتولى رعاية الأربعة

أماني القصاص تكتب: تساؤلات حول واقعة معلمة الدقهلية .. والتعليم أيضًا

سيدة شابة جميلة، تتطوع وتجتهد وتعلم أبناء الناس في إحدى المدن الحكومية المصرية، وتحصل على جائزة المعلمة المثالية بإجماع الآراء، تخرج السيدة ذات يوم في

أماني القصاص تكتب: الأخ بين المفترض والواقع

ألقتْ بكَ المقادير في يمِ الحياة طفلًا يتيم الأبوين فقيض الله لكَ أختًا ما كانت امرأة سوء ولا بغيًا، بصرت بك عن قربٍ وأنت لا تشعرْ

أماني القصاص تكتب: "يعني إيه راجل"؟

قد لا نحتاج في مجتمع آخر غير مجتمعنا المصري أو العربي لطرح مثل هذا السؤال البديهي المراوغ: يعني إيه راجل ؟ سؤال جاد جدًا ليس فانتازيًا

شيرين وغرفة التذكارات السوداء

نحمل ما اختبرناه في طفولتنا على أكتافنا طوال حياتنا، فالطفل الطبيعي بين أسرة سوية يهون حمله في الحياة مهما واجه بعد ذلك، والطفل المعذب يظل حمل الألم يؤرقه طوال عمره،