امرأة قلما جاد الزمان بمثلها. تمتلك قلبا أقرب إلى قلوب الملائكة. نموذج للأم المصرية، قدماها على الأرض بينما يلمس قلبها عنان السماء، اختارت أن تكون مختلفة، فقد فاض قلبها بالحب وتحولت إلى نقطة ضوء يلتف حولها الآلاف من الأطفال الفقراء والمحتاجين لا فرق بين جنس أو لون أو دين. شعارها الدائم هو «مد يد الخير للغير»، فهى تؤمن برسالتها، ولا يسر قلبها أكثر من فرحة طفل يعلو صوت ضحكته فوق صوت الفقر. إنها الدكتورة ماجدة جبران چورچي أو كما يطلقون عليها «الأم تيريزا المصرية».
موضوعات مقترحة
كان الرئيس عبدالفتاح السيسى قد كرم د. ماجدة جبران أو «ماما ماجى» كما اشتهرت بين الأطفال والكبار، عام 2018، ضمن احتفالية المرأة المصرية، لما قدمته من أعمال خيرية ولاهتمامها بالأطفال في الأحياء الفقيرة منذ عام 1985، حتى أنها أسست جمعية «ستيڨنز تشيلدرن» الخيرية التي تمكنت من مساعدة نحو 30 ألف أسرة مصرية.
كما كرمتها ميلانيا ترامب قرينة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عام 2019، حيث منحتها جائزة «سيدات الشجاعة الدولية»، ومنحها حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم عام 2017 جائزة «صنَّاع الأمل» فى الوطن العربي من بين 65 مشاركا من 22 دولة مختلفة، إضافة إلى ترشيحها من قبل البرلمان الكندي لجائزة نوبل للسلام خمس مرات متتالية.. قصة ماما ماجي بدأت قبل 35 عاما، كانت تعمل وقتها أستاذة بالجامعة الأمريكية متخصصة فى علوم الكمبيوتر، وفي زيارة كان القدر قد أعدها لها لمنطقة منشية ناصر، حيث تقطن مئات الأسر التي تعمل بجمع القمامة، صُدمت مما رأته من بؤس وعوز في عيون الأطفال، وكانت هذه الزيارة نقطة تحول فارقة في حياتها، فقد عادت إلى منزلها محملة بهموم الأطفال. فقدت القدرة على النوم، فكلما أغمضت عينيها طاردتها صور الأطفال المحتاجين إلى الحب وتقدير المجتمع لهم، ومنذ ذلك الحين قررت ماما ماجي تكريس كل وقتها ومجهودها لخدمة هؤلاء الأطفال.
والحقيقة أن الحظ قد حالفنا حين سمحت لنا ماما ماجي بأن ندق باب قلبها ونقترب لنتعرف إلى ما يدور في عقلها، فكان لنا معها هذا الحوار.
- آلاف الأطفال ينادونك «ماما ماجي».. دعينا نسأل عن شخصية والدتك والمنهج الذي اتبعته في تربيتكم لتصبحوا على هذا النحو؟
من الجميل أن يكون الأهل متفاهمين ومحبين لبعضهم، فقد تزوج والدي بوالدتي بعد قصة حب جميلة جمعت بينهما، كانت صغيرة السن وتدرس بمدرسة الأمريكان بأسيوط بالقسم الداخلي، حيث اعتادت أن تقيم هناك طوال فترة الدراسة، ذات يوم تعرضت لوعكة صحية فاستدعت الراهبات بالمدرسة الطبيب، من هنا جاءت الشرارة الأولى وشعر كلاهما بترابط شديد فكان الزواج.
كانت والدتي شديدة الوداعة تعلمت الكثير من هدوئها وحكمتها، ربتنا جميعا أنا وإخوتي على منهج واحد ملخصه الحب والعطاء، لم تكن تتكلم كثيرا وتكتفي بأن تكون قدوة في تصرفاتها.
أما بالنسبة لإخوتي فلي ثلاث أشقاء وشقيقة واحدة، أكبرهم طبيب قلب ماهر يرأس وحدة العناية المركزة بأحد المراكز الصحية المهمة، يليه مهندس يتمتع بشخصية خدوم، ثم مهندس أيضا متميز فى المجال الرياضي. أما شقيقتي فهي زوجة طبيب وهي إنسانة معطاء إلى أبعد الحدود.
-كان الوالد والعمة أيضا بمثابة المثل الأعلى فى مرحلتي الطفولة والصبا.. ما أبرز ذكريات تلك المرحلة؟
أذكر جيدا أن عيادة والدي كانت بجوار منزلنا، وكانت عمتي تعيش معنا بالمنزل حيث كانت قد قررت ألا تتزوج وتسلك طريق الرهبنة، لكن والدها طلب منها أن تعيش حياة الصلاة والنسك كالراهبات في بيت العائلة بدلا من الذهاب إلى الدير، المهم أننى كنت ألاحظ وأنا طفلة صغيرة صفوف الفقراء يقفون أمام العيادة حيث يقوم أبى بالكشف عليهم وأحيانا إعطائهم الدواء مجانا، ثم يدخلون منزلنا فتعد عمتي الطعام لهم وتستضيفهم لبعض الوقت الذي كانوا يقضونه في تبادل الأحاديث النافعة.
- متى كانت نقطة التحول فى حياتك؟ وكيف وجدت الجرأة على اتخاذ قرارك بالتفرغ لخدمة الفقراء والمحتاجين؟
الحقيقة أن إرادة الله في تحقيق ذلك جاءت في صورة مباركة جميع من حولي لهذه الخطوة، بمن فيهم زوجي وأولادى الذين كانوا رغم صغر أعمارهم مقدرين ومتفهمين لشغفي بخدمة الفقراء، وقد شجعني زوجي وقام بدور كبير حتى لا يشعر الأولاد بأي احتياج، فكان يهتم بكل التفاصيل بنفسه رغم انشغالاته، بمساعدة والدتي، لذلك أدين لهم بفضل كبير في ذلك الأمر.
- ما سر اختيارك اللون الأبيض؟
قبل سنوات عديدة، وأثناء مشاركتي بأحد المؤتمرات، لاحظت انزواء طفلة صغيرة في أحد الأركان ترفض مشاركة بقية الأطفال، وعندما سألتها عن السبب قالت: «لا أحد من الأطفال يرغب في صداقتي بسبب ملابسي الرثة الممزقة» كنت وقتها أرتدى زيًّا أبيض، فسألتها «ما رأيك ألا أغير هذه الثياب حتي نهاية رحلتنا وأنت أيضا على أن نتعامل كأصدقاء ولا نرى سوى ما بداخل قلوبنا وننسى المظهر الخارجي؟» فرحبت بالفكرة وكانت تجربة رائعة، ومن يومها لم أغير اللون الأبيض قط.
- هل تعتقدين أننا أصبحنا نعيش فى زمن تضاءلت فيه الإنسانية وعز فيه الحب؟
لا يوجد إنسان بلا قلب، ولا يوجد من لا يدق قلبه بالحب والعطف على الآخرين، لكن هناك من يهمل مراعاة هذه البذرة بداخله حتى تكاد تكون غير واضحة للآخرين، ولهؤلاء أقول: إن قيمة الإنسان الحقيقية تكمن في شعوره بالآخرين، بل إن نجاحه الحقيقي يقاس بنجاحه في إسعاد من حوله.
- كيف يمكن لأمهات اليوم مواجهة التحدى الصعب وتعليم أبنائهن أن يكون لديهم هدف وقيمة لإنسانيتهم وسط صخب الحياة وبريق عالم التكنولوچيا الذى يبهرهم ويسرق معظم أوقاتهم دون أن يدركوا ذلك؟
إنه فعلا التحدي الصعب، لكن يجب أن يكون للوالدين دور محوري في حل هذه المشكلة، حيث يجب التركيز على تنظيم وقت الأبناء ما بين الدراسة واللعب وممارسة الرياضة والأنشطة الاجتماعية وما إلى ذلك من مهام يومية مفيدة، وبالطبع فإن أسلوب الحياة الذي يمارسه الطفل منذ الصغر عادة ما ينمو معه فلا يتغير فى الكبر.
- يقول المثل الإنجليزى الشهير Late Better Than Never «أن أبدأ تحقيق الحلم لاحقا أفضل من ألا أبدأ مطلقا» كيف يمكن للإنسان العادى الذى يحمل فوق عاتقه الكثير من المشكلات والالتزامات أن يكون إيجابيا تجاه الإحساس بالآخرين وأن يسهم فى تحقيق حلم غيره وهو لا يستطيع تحقيق أحلامه الشخصية؟
ليس بالضرورة أن أسهم في تحقيق أحلام الآخرين بالتفرغ لذلك، ولكنى عندما أقدر الآخرين وأشجعهم فأنا أحقق حلمهم فى الإحساس بقيمة الذات واحترامها، وعندما أبتسم في وجه زميلي وأطري عليه بكلمات رقيقه فأنا أحقق حلمه فى الشعور بالرضا عن النفس. وهكذا، فالعطاء له أشكال كثيرة ويجب ألا نحده في معنى واحد.
- ليس الفقر فقط أن يجوع الإنسان أو يتشرد ولكن هناك أنواع من الفقر أشد إيلاما كالشعور بالاحتياج إلى الاهتمام والشعور بالوحدة وهو الفقر الأعظم.. كيف يمكننا علاج هذا النوع من الفقر؟
تحضرني الآن ذكرى إنسانة رائعة تعلمت منها الكثير، وهي كما كانوا ينادونها بمحيط الكنيسة الكاتدرائية بالعباسية «ماما آمال»، سيدة اختارت أن تبيع كل ما تملك وتنفقه على الفقراء، وكانت تقضى معظم وقتها بالكاتدرائية فكان يعطف عليها البعض ويعطونها المال. كانت تجمع المال كل يوم وتشتري به ساندوتشات، ثم تذهب بها إلى مستشفى الدمرداش لإطعام الأطفال هناك، أعتقد أن تلك السيدة قد عالجت نفسها من الشعور بالوحدة عبر شعورها بالآخرين، فإذا شعر كل إنسان بغيره فلن يكون هناك إنسان وحيد على وجه الأرض، مع العلم أن هناك بشرا كثيرين يشعرون بالوحدة حتى وهم وسط الصخب والضوضاء.
-لديك ابنة تكرس حياتها من أجل تربية أبنائها وابن اتجه إلى سلك الرهبنة تأثرا بالأنبا ميخائيل مطران أسيوط الراحل، ألا تفتقدين وجودهما فى حياتك مثل كل أم؟
بالتأكيد كثيرا ما كنت أشعر بافتقادهما، ولكنى كنت أشعر بأنني أرى عيونهما فى عيون كل طفل خدمته، والحقيقة أنهما ووالدهما شركائي فى خدمتي بكل ما تحملوه من أجل نجاحها، لذلك أنا فخور بهما إلى أقصى حد.