Close ad

الديمقراطية فى خطر

14-1-2021 | 14:17
الأهرام اليومي نقلاً عن

حبس العالم أنفاسه وهو يشاهد حادث اقتحام الكونجرس الأمريكى على يد أنصار الرئيس ترامب. توقفت جلسة الكونجرس بسبب الاجتياح، لكن سرعان ما تم طرد المقتحمين، وواصل الكونجرس تصويته لإقرار فوز جو بايدن برئاسة الولايات المتحدة.

تعطلت مؤسسات الديمقراطية الأمريكية عن العمل، ولكن فقط لأقل من 24 ساعة، فما هى العبرة التى سنحملها معنا فى السنوات المقبلة؟ هل هى فشل الديمقراطية، أم نجاحها السريع فى استعادة زمام الأمور بخسائر محدودة، أم أن فى الأزمة الأمريكية دروسا أخرى؟

الديمقراطية هى مجموعة من الإجراءات التى تنظم ممارسة السلطة. الانتخابات الدورية النزيهة هى حجر الزاوية فى الديمقراطية، فبدلا من أن يتقاتل الناس أو يتآمروا للاستيلاء على السلطة، فإنهم يذهبون لصناديق الاقتراع، ليتولى السلطة الطرف الفائز بأكثر الأصوات، فيهنئه المنافسون، ثم يعودون إلى بيوتهم ليستعدوا للانتخابات التالية، على أمل أن يكون حظهم فيها أفضل. إنها صورة مثالية بالفعل، ولكن هذا هو جوهرما حدث فى البلاد الديمقراطية طوال القرنين الأخيرين.

انتصار المرشح الفائز بأغلبية الأصوات ليس هو أهم ما فى النظم الديمقراطية، فالأهم منه هو قبول المهزوم بنتيجة الانتخابات، لأنه يثق فى المؤسسات القائمة على تشغيل النظام، ويثق فى أن هناك فرصة عادلة للفوز تنتظره فى المرة المقبلة، وأن المسافة بين الخاسرين والفائزين فى الانتخابات ليست كبيرة فى كل حال، وأنه سوف يكون من الممكن إصلاح وتعويض أى ضرر تنتجه سياسات الخصوم، وأن تكلفة قبول خسارة الانتخابات هى بالتأكيد أقل من تكلفة هدم الديمقراطية.

لم يعد الناس فى الولايات المتحدة واثقين من نزاهة الانتخابات، فالاستطلاعات تشير إلى أن أكثر من ثلث الأمريكيين يعتقدون أن الانتخابات الأخيرة تم تزويرها. لقد تم فحص كل شكوى وكل مصدر للشك فى نزاهة الانتخابات، بمعرفة قضاة محترفين، لكن هذا لم يكن كافيا لتغيير رأى المتشككين، الذين لم يعودوا إلى بيوتهم، وقرروا العمل بإيجابية لإحقاق ما يعتبرونه حقا، فقاموا باقتحام الكونجرس، وكان الحدث الذى شهدناه جميعا.

لا توجد أدلة تعزز الادعاء بأن ما حدث فى الانتخابات الأمريكية الأخيرة يختلف عما كان يحدث فى الانتخابات السابقة، لكن ما حدث هو أن بعض الأمريكيين أصبحوا يكرهون البعض الآخر، ويعتبرونهم أعداء متعصبين خطرين، لا يتورعون عن فعل أى شيء يعزز مصالحهم، وهم بالتالى غير جديرين بالثقة. لم تعد رابطة المواطنة والوطن كافية لتأسيس الثقة بين الأمريكيين بغض النظر عن اختلاف الآراء السياسية.

فقدت مؤسسات النظام السياسى الأمريكى معناها كمظلات جامعة، وتحولت إلى أسلحة وأدوات للصراع، وليس هناك من يسلم للأعداء أسلحة يفتكون بها، ولو باسم الديمقراطية، واقتحام الكونجرس لم يكن سوى محاولة لمنع وقوع سلاح الرئاسة فى يد الأعداء.

ما حدث فى الولايات المتحدة هو انشطار المجال السياسى إلى قسمين وفريقين متباعدين، ينظر كل فريق إلى الآخر باعتباره عدوا يمثل تهديدا خطيرا. بالنسبة لأنصار الرئيس ترامب، فإن خصومهم الليبراليين هم من الملاحدة، والمهاجرين الملونين، والشيوعيين، الذى يسعون للاستيلاء على أمريكا ممن قاموا ببنائها على مدى خمسة قرون، والذين نجحوا فى السيطرة على الإعلام، وعلى مساحات كبيرة من القضاء، وهم يستخدمون كل موقع تنفيذى يحتلونه للسيطرة على السلطة، بأى وسيلة، حتى لو لجأوا إلى تزوير الانتخابات. الليبراليون الديمقراطيون، على الجانب الآخر، ليسوا أفضل حالا فى نظرتهم إلى الفريق الآخر. فكلما نظر واحد من هؤلاء للحزب الجمهورى لا يرى هناك سوى عنصريين، متعصبين، ضيقى الأفق، يؤمنون بتفوق العرق الأبيض، تسيطر على عقولهم الخرافات والأساطير.

انشطرت أمريكا أيديولوجيا إلى فريقين، كل منهما يكره الآخر، ولا يحمل له أى تقدير أو مشاعر إيجابية، وما جرى هناك يوم اقتحام الكونجرس هو النتيجة المنطقية لهذا الانقسام. أظن أننا فى العالم العربى كنا أقل المصدومين مما حدث فى أمريكا لأننا نعيش منذ عشر سنوات فى عالم تحكمه الانقسامات الأيديولوجية العميقة، وما الاضطرابات السياسية والحروب الأهلية، التى تلت انتفاضات ذلك الشتاء فى عام 2011، سوى نتيجة لهذه الانقسامات.

خرج الناس فى بلاد العرب قبل عشر سنوات ضد نظم فيها الكثير من الفساد والاستبداد، لكنهم اكتشفوا بعد ذلك أنهم غير متفقين على البديل الذى يريدون إقامته محل النظم الساقطة. فبينما كان الإخوان وأنصارهم يريدون إقامة حكومة دينية على نسق النظم القائمة فى إيران أو أفغانستان طالبان؛ كان هناك الوطنيون المتمسكون بتقاليد الدولة الوطنية والحداثة الاجتماعية والثقافية والسياسية. سقطت النظم القائمة، لكن الشك بين الخصمين الأيديولوجيين خيم على الأجواء، وانتهى الأمر بالصدام بينهما، وصولا إلى الحرب الأهلية فى بعض البلاد.

بينما كانت مشاهد العنف تأتى من الكونجرس، كان هناك شامتون فى قوة عظمى متغطرسة، طالما تدخلت فى شئون الآخرين بدعوى نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان.النظام الديمقراطى هو إنجاز رائع للجنس البشري، والمؤكد أن العالم لن يكون أفضل حالا لو فشلت الديمقراطية. مشكلتنا مع الديمقراطية الأمريكية ليست هى أننا نكرهها، ونكره ما يرافقها من حريات، على العكس؛ ولكن مشكلتنا معها هو أنها تستخدم ذريعة للتعالى علينا، ولإسماعنا محاضرات مطولة حول فضل الديمقراطية، ولتبرير التدخل فى شئوننا فى تجاهل تام لظروف مجتمعاتنا.

الديمقراطية نظام فعال لإدارة الخلافات بين متنافسين، تجمعهم أشياء تزيد عما يفرقهم، يقفون على الأرض نفسها، وإن فصلتهم بعض المسافات. عندما تزيد أسباب الخلاف على أسباب الاتفاق، وعندما يتعمق الاختلاف السياسى ليصبح انقساما إيديولوجيايبرر الكراهية؛ عندها لا تقوم الديمقراطية، أما إذا كانت قائمة فإنها تصبح فى خطر. إقامة الديمقراطية والحفاظ عليها يحتاج إلى قدر مناسب من التوافق الأيديولوجي. هذا هو الدرس الأمريكي.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
فك شفرة التخلف

منذ قرنين ومصر تتقدم كالضفدع، قفزة طويلة للأمام، ثم سكون طويل في انتظار القفزة التالية. قفزة كبيرة مع محمد علي باشا، ثم الخديو إسماعيل، وثورة 1919، وجمال

سلحفاة وضفدع وحصان

لا أتحدث عن حديقة الحيوان، بل أتحدث عن الدول. فالدول في علاقتها بالتنمية تتصرف إما كسلحفاة أو ضفدع أو حصان. فأين نحن من هذه النماذج.