Close ad

الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة (2)

10-1-2021 | 11:39
الأهرام اليومي نقلاً عن

من المؤكد أن الكثيرين قد فرحوا عندما رأوا الحكومة السودانية تؤكد مدنية الدولة، والفصل الكامل بين المُعتقدات من ناحيةٍ، والحقوق والواجبات من ناحيةٍ ثانيةٍ، مؤكِّدة بذلك مُستقبلها كدولةٍ مدنيةٍ مُتحررةٍ من ماضيها الذى أدَّى إلى ارتفاع درجة التعصب التى انتهت بتحول السودان الواحد إلى سودانينِ اثنين، ومن ثم خلق الإخوة الأعداء الذين أدركوا فى النهاية بشاعة الكابوس الذى عاشوا فيه، ومن ثم عادوا إلى الطريق القويم الذى يفصلُ تمامًا بين الدين والدولة، ومن ثم انمحت الفوارق المُصطنعة التى زرعتها الجماعات الإسلامية فى السودان وأدت لانقسامه. وإذا كنا نتطلع إلى التجارب التقدمية فى بلاد الإسلام المُحيطة بنا، فإننا نزداد إدراكًا بأن المستقبل المصرى مرهونٌ دائمًا بالحفاظ على شعارات ثورة 1919 التى تنص على أنه لا فارق بين مسلمٍ ومسيحى فى حق المواطنة وما يترتب عليها من حقوق أو واجبات.

إن الكوارث التى مر بها السودان الشقيق، والحروب الدموية التى شهدها، والانقسام الذى جعل منه دولتين، إنما كان بسبب تديين الدولة، والخلط الكامل بين الدين والدولة. ولا شك أن هذه الكارثة التى أنتجت سودانينِ (شماليًّا وجنوبيًّا) ينبغى أن نضعها فى مُقدمة وعينا على نحوٍ لا يُنسى، بل يُذكِّرنا دائمًا بأن تديين الدولة يعنى الكوارث التى لا نهاية لها، والتى تبدأ عادة بانقسام الدولة، وتحويل المواطنين إلى إخوة أعداء. والمؤكد أن إزالة فتيل القنبلة النائمة، والإلحاح على مدنية الدولة هو مصدر الأمن الدائم للدولة.

ولننظر حولنا ولنتأمل فيما يحدث فى البلدان العربية، ومنها اليمن على سبيل المثال، فسنجد أن الكوارث التى مازال يتسبب فيها الحوثيون وأمثالهم إنما جاءت من التحريف الذى قَلَبَ الدولة اليمنية من دولةٍ مدنيةٍ إلى دولةٍ دينيةٍ تتصارع فيها المذاهب والمعتقدات، وبالقدر نفسه يمكن أن نشير إلى ما تُعانى منه أوروبا حاليًّا، وما سبق أن عانت منه عندما استقبلت لاجئين مُسلمين باحثين عن الأمان، وسمحت لهم بالإقامة فى أراضيها تطبيقًا منها لقواعد الحرية والعدالة والمساواة فى الدولة المدنية التى هى إياها. ولكن لم يمضِ الوقت طويلًا حتى انقلبت هذه الفئات المُهاجِرة، وبدأت تنشر سموم التعصب الفكرى والدينى التى سرعان ما تحولت إلى إرهاب نراه اليوم فى فرنسا وفى النمسا وفى ألمانيا وفى غيرها من البلدان الأوروبية التى تحوَّل فيها الدين الإسلامى السمح إلى علامةٍ على الإرهاب، وإلى ناقوس خطر يُهدد الجميع. وعندما نقف اليوم مع فرنسا ونتعاطف معها ونؤيدها فى حربها على الإرهاب الدينى، فإنما نفعل ذلك للسبب نفسه الذى تفعله فرنسا، وهو الحفاظ على الصفة المدنية للدولة.

والحق أن فرنسا اليوم تقوم بمواجهة هذا الوحش الذى أمنت له وسمحت له بالتضخم بين جوانبها، نتيجة إيمانها بمدنيتها من ناحيةٍ، وما ينبنى على هذه الصفة المدنية من تسامحٍ، وقبول للاختلاف، ونبذٍ للتعصب بأى حالٍ من الأحوال. ولكن فرنسا فعلت ذلك مع فئات لم تكن تعرف معنى الدولة المدنية، ولا ترى وجودًا إلا لدولةٍ دينيةٍ، فضلًا عن أنها لا تعرف حق الاختلاف فى الفكر أو العقيدة، ومن ثم أصبحت نغمة نشازًا فى إيقاع الدولة المدنية، ذلك الإيقاع الذى اختل مع وجود طوائف لا تؤمن بالمعنى المدنى للدولة أصلًا. فكانت المأساة التى مازالت تتكرر فيما نرى ونسمع، وهو الأمر نفسه الذى حدث فى إنجلترا التى فتحت أبوابها فى السبعينيات للعناصر الإسلامية أو التى اتخذت الإسلام قناعًا تُخفِى وراءه مصالحها وأهدافها السياسية، ووصلت بها قوة حضورها فى إنجلترا إلى حد إطلاق اسم لندنستان على العاصمة لندن فى عام 1975 الذى كان ذروة المد الإسلامى السياسى فى إنجلترا. ولكن سرعان ما انتبهت إنجلترا مثل غيرها إلى المخاطر التى ترتبت على وجود إرهابيين يتسترون وراء أقنعةٍ دينيةٍ زائفة، ويرفعون دعاوى مُناقِضة للسلوك الفعلى الذى يتمثل فى رفض قبول الاختلاف، أو يُكفِّرون الذين أحسنوا إليهم فى عواصم أوروبا كلها.

وعندما نرى اليوم أوروبا تحاول القضاء على ذلك الإرهاب المُتستِّر براية الإسلام البرىء من تلك المزاعم الإرهابية، فإننا نقف مع تلك الدول حتى لا تلتهمها نيران التعصب ومخاطره التى يمكن أن تمتد شراراتها إلى العالم بأَسْره. ولذلك فمن أكثر الأمور أهمية أن نعض بنواجذنا على الصفة المدنية للدولة المصرية، وأن نؤكد هذه الصفة تأكيدًا ينتزع من الصورة أى شائبةٍ من الشوائب التى تتمسح بالدين. ولحسن الحظ فإن ديننا الإسلامى هو دين مدنى بالطبع، وذلك على نحوٍ لا يختلف كثيرًا عمّا ذهب إليه صديقنا العالم الإسلامى عبد المعطى بيومى الذى كتب كتابًا جميلًا عن الإسلام والدولة المدنية. وقد كتبتُ عنه فى هذه الصحيفة وأشدتُ به.

ولا تنفصل مدنية الدولة بالطبع عن الديموقراطية، بل إن المدنية هى الوجه الآخر للديموقراطية. والعكس صحيح بالقدر نفسه، فلا مدنية للدولة دون ديموقراطية تؤكد حق الاختلاف وشرعيته الدستورية والسياسية بالضرورة. هذا الاختلاف من طبيعة البشر والأمم، ولولا ذلك لجعلنا الله أُمة واحدة، ولكنه خلقنا شعوبًا وقبائل وأُممًا تتعارف وتتحاور وتبحث عمّا يجاوز اختلافاتها على كل مستوى من المستويات. هذا التنوع الخلّاق للإنسانية لا ينفصل عن معنى الحداثة أو التحديث على السواء. وإذا كان التحديث يشير إلى الجانب المادى المرتبط بالعلم والتطور الصناعى والتكنولوچى، فإن الحداثة ترتبط بالمعنى الفكرى الذى يشير إلى درجةٍ أرقى من فكر الإنسان حين يستخدم العلم لا لكى يفرض سُلطانه، وإنما لكى يخلق سُبُلًا أكثر فاعلية فى التواصل ما بين العقول والأفكار لتجاوز الانقسام وأشكال الصراع فى الوقت نفسه. وهذا هو الأصل الفلسفى الأحدث فى معنى الديمقراطية التى تعنى حُكم الأغلبية التى تحترم رأى كل واحدٍ فيها مهما كان اختلافه عن المجموع السائد أو الشائع. فالديمقراطية الحقيقية أن تُعطى لكل فردٍ ما تُعطيه لأغلبية الأفراد من الحق نفسه فى التعبير والحضور الإيجابى على السواء فى الدولة الحديثة التى هى دولة العلم والتقدم الذى لا نهاية له ولا حد.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
المادة السابعة من الدستور

سبق أن كتبتُ رأيى فى هذه المادة فى هذه الجريدة عبر مجموعة من المقالات تحت عنوان: ذكريات الدستور، وكان ذلك فى 21/6/2020 على وجه التحديد. وفيها علَّقت بأن

استفتِ قلبَك

كان من الطبيعي أن يتطرق الحوار بيني وبين الإعلامي عمرو أديب إلى مسألة الفتوى. وكان من الطبيعي أن يسألني عمرو أديب عن حقيقة الفتوى، وهل من حق أي مسلمٍ أن

حوار عمرو أديب

منذ صدر كتابي: «دفاعًا عن العقلانية» عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في أواخر العام المنصرم، وتأتي إلىَّ أصداء أفكاره من القراء والمُهتمين بموضوعاته. وكان