علي مدي الأسابيع الأخيرة، وتحديدًا من 21 ديسمبر 2020،اتبعت الولايات المُتحدة وإيران سياسة تصعيد خطيرة يُمكن وصفها بحافة الهاوية. وهذا هو التعبير الذي استخدمه وزير الخارجية الأمريكي في حقبة الخمسينيات جون فوستر دالاس وقصد به اتباع أحد أطراف الصراع سياسة مواجهة وتحد والتلويح بالاستعداد لاستخدام القوة المُسلحة مما يؤدي إلي تراجُع الخصم وتغيير موقفه وتقديم تنازُلات. فجوهر هذه السياسة هو الاقتراب بالصراع من حافة الهاوية دون الانزلاق فيها، فهي سياسة ردع في المقام الأول،ونشوب الحرب يعني فشلها. وفي حالة الصراع الأمريكي ـ الإيراني، اتبع الطرفان نفس السياسة. فكل تصعيد يقوم به طرف يُقابله ويواجهه تصعيد مماثل من الطرف الآخر وإن كان كلاهما قد حرص علي إعلان عدم الرغبة في نشوب الحرب وإنما اتخذا هذه الإجراءات كخطوة وقائية. وكأن كليهما يتبني سياسة ما يُمكن تسميتها بالتصعيد العسكري المحسوب من أجل منع الحرب أو التهديد بالقوة للحيلولة دون استخدامها.
في هذا السياق، قامت أمريكا بتعزيز مواقعها العسكرية في منطقة الخليج. فأرسلت حاملة الطائرات نيمتز التي تُعتبر من أضخم السفن الحربية في العالم، والسفينة الحربية جورجيا وهي واحدة من أربع سفن مماثلة في البحرية الامريكية وتحملُ ما يقرُب من 154 من صواريخ توماهوك التي يصل مداها من 1300 إلي 2500 كيلومتر، وعدد من الغواصات النووية إلي مياه الخليج أو بالقُرب منها. وقامت قاذفات القنابل العملاقة B52 بالتحرك من قواعدها في ولاية كارولينا الشمالية والتحليق فوق سماء إيران. ورافقت ذلك تهديدات من كبار المسئولين برد فعل عنيف إذا قامت إيران بأي اعتداء علي الجنود الأمريكيين في المنطقة.
تمثلت حسابات واشنطن في التخوف من قيام إيران بعملية عسكرية للانتقام من مصرع قاسم سُليماني في 5 يناير من العام الماضي، وإشارة أكثر من مسئول إيراني إلي أن هذا الملف مازال مفتوحًا وأن إيران سوف تنتقم من كُل من شارك في هذا العمل خاصة أنها تأتي في فترة حرجة ما بين انتهاء ولاية رئيس وقدوم رئيس جديد مما قد يُغري إيران باستغلال هذه الفُرصة. وزاد من هذا التخوف استمرار حوادث إطلاق الصواريخ علي السفارة الأمريكية في بغداد وتصريحات قادة الحشد الشعبي الموالية لإيران من أنهم لن يتوقفوا عن ذلك إلا بعد انسحاب القوات الأمريكية من العراق.
وعلي الجانب الآخر، قامت إيران أيضًا بالتصعيد العسكري. فزار قائد الحرس الثوري في 2 يناير الماضي جزيرة أبو موسي الإماراتية التي تحتلها إيران لتفقُد التجهيزات العسكرية فيها، وانتشرت السفن الحربية الإيرانية وغواصاتها المُقاتلة في الخليج. وصرح مسئولوها بأنه في حالة تعرض إيران لأي اعتداء، فإن ردها سوف يكون حاسمًا وشاملًا للقواعد الأمريكية وللمدن التي تستضيفها. وفي إشارة إلي حُلفائها في المنطقة والدور الذي سوف يقومون به في حالة نشوب حرب، أكدوا أن جميع الأسلحة الموجودة لدي حزب الله وحماس هي إيرانية الصُنع. ووفقًا للتصريحات الإيرانية، فإن مخاوفها تركزت حول احتمال قيام الرئيس ترامب في أيامه الأخيرة بتوجيه ضربة عسكرية ضد إيران لتعقيد الموقف أمام إدارة بايدن الجديدة، وأن هُناك تنسيقا أمنيا إسرائيليا في هذا الشأن يؤكده تحرك غواصة حربية إسرائيلية دولفين 2 تجاه الخليج، وهي غواصة مُقاتلة تُطلق صواريخ برؤوس تقليدية أو نووية تصل إلي مدي 1500 كيلومتر.
ورغم هذه التخوفات والشكوك المُتبادلة، فقد حرصت كُل من واشنطن وطهران علي التأكيد بأنها لن تكون الطرف الذي يبدأ الحرب، فأصدر وزير الدفاع الأمريكى قراراً بسحب حاملة الطائرات نيمتز في 31 ديسمبر 2020، وصرح وزير خارجية إيران في نفس اليوم من بأن بلاده لا تسعي للحرب. ولكن هذه الرسائل لم تؤتِ ثمارها بسبب وجود رسائل أُخري مُناقضة. فعلي سبيل المثال، في 2 يناير، أبلغت إيران الوكالة الدولية للطاقة الذرية بأنها تزمع الارتفاع بنسبة تخصيب اليورانيوم إلي 20% في مُخالفة صريحة للاتفاق النووي عام 2015. وبعدها بيومين، احتجزت قوات الحرس الثوري سفينة ترفع علم كوريا الجنوبية بدعوي مُخالفتها لقواعد المرور في مضيق هُرمُز. وفي نفس اليوم، أصدر الرئيس ترامب قرارًا بعودة نيمتز إلي مياه الخليج مرة أخري، ووصف قرار طهران برفع نسبة تخصيب اليورانيوم بأنه ابتزاز نووي.
إلي ماذا سوف يقود هذا التصعيد في الأيام الأخيرة من إدارة ترامب؟ كانت التحليلات الاستخباراتية والإعلامية تتوقع أن تقوم إيران بعمل عسكري في الذكري الأولي لمصرع قاسم سُليماني، ومر هذا اليوم بسلام. والأرجح عندي أن أيًا من أمريكا وإيران لن تندفع نحو مواجهة عسكرية لإدراكهما حجم النتائج الكارثية التي يُمكن أن تحدثُ في أكثر من بلد عربي وقُدرة كُل منهما علي إلحاق الأذي بمصالح ورعايا الآخر. فأمريكا تُدرك انتشار الأذرع الإيرانية في العراق ولُبنان وسوريا واليمن، وإيران تُدرك أيضًا أن توازن القوي الشامل ليس في صالحها وأن السلاح الأمريكي يُمكن أن يُلحق دمارًا واسعًا فيها. لذلك لن يتهور أي منهما في اتخاذ قرار بحرب واسعة النطاق.