يوم 29 ديسمبر الماضى نشر المثقف والمدير القدير لمكتبة الإسكندرية الدكتور مصطفى الفقى مقالاً مهماً فى جريدة الأهرام عن مؤسسات العمل العربى المشترك، تطرق فيه لدور الجامعة العربية فى محيطها الإقليمى وحلل انعكاس التطورات فى هذا المحيط على صفحة الجامعة، وعندما أتى لبعض مؤسسات العمل العربى المشترك توقف أمام التجربة الفريدة لمعهد البحوث والدراسات العربية فى العقدين اللذين ترأس فيهما المعهد الدكتور أحمد يوسف أحمد (1993-2013) . ولذلك فإن الدكتور مصطفى الفقى له شكر واجب إذ شجعنى بمقاله على أن أُقلّب فى صفحات من ذاكرة المعهد، وأن أقدم شهادتى على مرحلة اقتربتُ من كل تفاصيلها كمحاضرة ثم كخبيرة ثم كأمينة للشئون التعليمية.
امتلك الدكتور أحمد يوسف أحمد ومنذ اللحظة الأولى رؤية متكاملة لتحويل المعهد من مجرد إدارة من إدارات المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو) لاتملك من أمرها شيئا ويعمل فيها مجموعة من الموظفين، إلى مؤسسة أكاديمية محترمة تتمتع بالاستقلالية فى إدارة شئونها. وكانت البداية بتكوين مجالس الأقسام العلمية على شاكلة نظيراتها فى الجامعات العريقة وبحيث تضطلع بمهامها من وضع البرامج الدراسية إلى البت فى مشروعات الرسائل العلمية، وفِى غضون شهور قليلة صارت للمعهد كتيبة ممتازة من رؤساء الأقسام الأعلام فى تخصصاتهم وهم الأساتذة: يونان لبيب رزق للتاريخ ويحيى الجمل للقانون وأحمد زايد للاجتماع وعز الدين إسماعيل للأدب وأحمد يوسف للسياسة وَعبد الهادى سويفى للاقتصاد. أعيد فتح قسم الجغرافيا بعد أن جرى إغلاقه لأسباب ليس هنا محل ذكرها وترأسه الدكتور صبحى عبد الحكيم، وأضيف لتخصصات المعهد أقسام الإعلام والتربية والتراث وأتت على رأسها كوكبة أخرى من كبار الأساتذة: منى الحديدى وحامد عمّار وعبدالستار الحلوجي، وهكذا كان الاجتماع الشهرى للمجلس العلمى للمعهد وكأنه اجتماع لهيئة أركان العلوم الاجتماعية على مستوى الوطن العربى كله. وبالتوازى مع هذا التوسع الأكاديمى الأفقى كان هناك توسع رأسى بإضافة برنامج الدكتوراه لأول مرة، ولهذا قصة طريفة تُروي.
تقدم الدكتور أحمد يوسف بمذكرة تفصيلية للمجلس التنفيذى للمنظمة يطلب فيها استحداث برنامج للدكتوراه، وكانت معالم تطوير مسيرة المعهد قد بدأت تتبلور وأخذ يجتذب أعداداً متزايدة من طلاب الوطن العربى (كان جامعة عربية مصغرة) وشهدتُ الطلاب وقد ضاق بهم مدرج ساطع الحصرى وهم يطلون من نوافذ المدرج للمتابعة بكل اهتمام حتى إذا انتهى الفصل الدراسى تسابقوا على التقاط الصور الفوتوغرافية مع هيئة التدريس. كانت أياماً رائعة لكنها أزعجت بشدة المسئولين عن الجامعات الخاصة، لأنها ببساطة حرمتهم من الطلاب. اعترضت إدارة المنظمة -ممثلة فى نائب المدير- بدعوى أن المعهد رسالته فى الأساس هى رسالة بحثية وكأن الأطروحات العلمية ليست أبحاثاً! وقد صارت هذه الحجة الواهية سلاحاً يُشهَر فى وجه المجلس لاحقاً بين فترة وأخري. تفتق ذهن مدير المعهد عن حيلة ذكية لتمرير الدكتوراه بأن قام بإدراجها ضمن مشروعات المعهد للسنة المالية الجديدة دون أى تنويه، وكان على ثقة من أن أحداً لا يقرأ الوثائق، وهذا ما حدث فعلاً ووافق المجلس التنفيذى ومن بعده المؤتمر الوزارى على برنامج الدكتوراه.
وبعد أن استطاع الدكتور أحمد يوسف أحمد الحصول على اعتراف دولة المقر بدرجة الماچستير، أصبح يتم الاعتراف بالدكتوراه بعد دراسة كل حالة على حدة وهذا إنجاز كبير. الإقبال الشديد على المعهد كان نجاحاً يمكن أن يدير الرؤوس، وكان جلوس الطلاب العرب والأمازيغ والأكراد والشيعة والسنة والمسيحيين متجاورين فى قاعات المعهد بمثابة احتفاء بالتعددية البديعة لشعوب الوطن العربي، حتى إذا ما أضيف الأفارقة لهذه الخريطة الطلابية اكتسب التنوع أبعاداً جديدة، وهنا أفتح قوسين لأقول إن دكتور أحمد يوسف سمح بقبول الطلاب الأفارقة بعد أن كانوا ممنوعين من الالتحاق بالمعهد لأنهم من غير العرب، بل إنه صاحب قرار قبول نسبة من الطلاب الآسيويين من خريجى جامعة الأزهر وبعض الطلاب الأوروبيين المعنيين بالدراسات العربية فالهدف هو نشر الرسالة، والرسالة هى العروبة المنفتحة على كل أشكال التنوع .
ومع ذلك فإن النجاح لا يدير إلا الرؤوس الصغيرة أما الرؤوس الكبيرة فلها شأن آخر. قرر مدير المعهد ألا تمثل المصروفات عائقاً أمام أحد لمواصلة التعليم حتى قال له مسئول بإحدى الجامعات العربية الخاصة إن تكلفة الدراسة فى المعهد لمدة عام تقل عن تكلفة دراسة مقرر واحد فى جامعته، فلم يهتز. ليس هذا فقط بل إنه توسع فى الإعفاء من المصروفات لذوى الظروف الخاصة فكان الإعفاء كبيراً للطلاب الفلسطينيين وإعفاء كاملاً للطلاب الصوماليين. ورغم كل ذلك استطاع المعهد أن يراكم من موارده الذاتية مايمول به أنشطته بل ويمول الألكسو نفسها بنسبة بلغت 20% من إيراداته، كما اشترى قطعة أرض بمساحة نحو عشرة آلاف متر مربع بقيمة 25 مليون جنيه فى مدينة 6 أكتوبر لإقامة مبنى جديد للمعهد يناسب توسعه.
ومن معارك الدكتوراه والتشكيك فى المستوى الدراسى للطلاب والتمويل الذاتى إلى معركة الوجود نفسه. فى عام 1996 قرر المجلس التنفيذى للمنظمة إلغاء أجهزتها الخارجية بدعوى توفير النفقات، وكان المعهد هو المستهدف الأول. شمّر صاحب القضية عن أكمامه ووظف علاقاته الممتازة بكبار المسئولين وأصحاب النفوذ: أمين عام جامعة الدول العربية الدكتور عصمت عبد المجيد، ووزير الخارجية عمرو موسي، ووزير التربية والتعليم والتعليم العالى الدكتور حسين كامل بهاء الدين، ورئيس جامعة القاهرة الدكتور مفيد شهاب، والأستاذ محمد حسنين هيكل، ومن اجتماع إرادات هؤلاء الكبار ألغى القرار وتراجع المجلس التنفيذى وعاش المعهد. إن عشرين عاماً من عمر معهد البحوث والدراسات العربية تقدم تجربة فريدة وحرية بالتدريس لكل من يعنيه العمل العربى المشترك، وهى تجربة باقية فى وجدان كل من عاصرها وكل الأجيال التى انتفعت بها - باقية حتى ولو أزيل اسم الدكتور أحمد يوسف أحمد صاحب هذه التجربة من اللوحة الخضراء التى يصادفها زائر المكان أول ما يصادفه.