Close ad

هل لدينا أخلاق؟

5-1-2021 | 10:18
الأهرام اليومي نقلاً عن

قبل أسابيع قليلة تحدث الكاتب والأكاديمى المرموق د. سليمان عبد المنعم فى مقال ضاف بالأهرام عن قضية الانحدار فى الأخلاق العامة فأبدع فى توصيفها، قبل أن يتساءل عن سرها، داعيا للنقاش حولها. واليوم أدلو برأى فى القضية لأهميتها، فالأخلاق ليست مجرد صفات حميدة يتسم بها الفرد تجعله مقبولا، أو صفات سيئة تجعله منفرا، بل نسق قيمى يحكم علاقته بالمجتمع، يصعب تحقيق النهضة الحضارية دون سلامته وصلاحيته كآلية للتغيير المنشود، نسق فعال لا يكفى معه أن نحب الخير ونكره الشر، بل يفرض علينا أن نحاصر الشر ونسعى إلى قهره، أيا كان مصدره، وأن نجتهد فى طلب الخير بديلا عنه.

ومن ثم تفترض الأخلاق أن نُعرِّف الظلم بأمانة، وأن نقاومه دون هوادة، ولو فقدنا حياتنا فى تلك المغامرة الفاضلة. كما تفرض علينا أن نبكى لألم غيرنا، ونصفق لنجاح المحيطين بنا بدلا من أن نحقد عليهم، أن نحترم الإرادة التى تصنع الأمل بدلا من التشويش عليها. يفتقد مجتمعنا لهذا النسق الأخلاقى رغم استناده إلى دينين عظيمين كالإسلام والمسيحية، فأغلبنا يكره الناجحين ويشوش عليهم، ينافق الشر خوفا ولا ينتصر للخير مادام لن يصيب منه مغنما، مثلما يخذل الحق مرارا لو ناقض مصالحه. أما سر فقرنا الأخلاقى فهو أننا أهدرنا النموذج الدينى الموروث للفضائل، ولم نصنع نموذجا مدنيا حديثا للقيم، فوقعنا فى شراك الفوضى.

يتأسس نموذج الأخلاق الدينية على الضمير، ذلك المفهوم المحورى فى بناء الإنسان الداخلي، حائط الصد الذى يقاوم الشر فى داخل نفسه والعالم حوله. ولكن المشكلة أنه مفهوم ذاتى جدا، يصعب تنميته من خارج الفرد. وعندما تتعرض المجتمعات لاهتزازات شديدة يرتبك هذا الضمير بين ما كان مستقرا ولكنه بات معرضا للزوال، وما هو فى طور التشكل لكنه لم يستقر بعد، ما يدفعه إلى متاهة تخرج منه أسوأ ما فيه لأنه فى كل موقف يتعرض فيه للاختيار بين متشابهات سيختار ما يحقق رغباته الذاتية.

أما النموذج الأخلاقى الحديث فيتأسس على مفهوم الواجب، الذى وضعه كانط معلما للإنسان المستنير، ينهض على مبدأين بسيطين: أن نسلك فى الحياة إزاء الآخرين بالطريقة نفسها التى نتمنى من الغير أن يسلكوا بها نحونا، وأن نتصرف وكأن سلوكنا منوال ينسج عليه الآخرون، ثم ننظر هل ازداد خير العالم أم تناقص.

ببساطة شديدة يفرض المبدآن على كل شخص يهم بإلقاء ورقة صغيرة فى طريق عام أن يتصور وكأن كل فرد فى العالم سيفعل مثله فى اللحظة نفسها، وما يترتب على ذلك من قذارة شاملة. ورغم إن مفهوم الواجب يظل أقل عمقا من مفهوم الضمير، فإن مزيته الكبرى هى القابلية للتقنين والتنظيم.

مشكلتنا اليوم، أن جزءا مهما من مجتمعنا (المتدين بطبعه) ينفق جهده فى هجاء الثقافة الحديثة باعتبارها قرينا لعلمانية الغرب وماديته، والمفاخرة بأسلاف بعيدين من ذوى الضمائر الحية، بينما واقعنا المعيش فقير مجدب. يردد هؤلاء الآيات والأحاديث عن الأخلاق ويسلكون ضدها، يطلق بعضهم اللحى ويكبحون جماح الفضيلة، يرون الظلم ولا يثورون عليه مادام الله شهيدا على الظالم، وكيلا عن المؤمن فى القصاص منه يوم الدين. ومن ثم يتبدى التناقض بين الأخلاق الدينية والأخلاق المدنية فى الموقف من صاحب حق مهضوم، فالشخص المستنير يكره رؤية العدل مهزوما، ولذا يستميت فى الدفاع عنه أملا فى رؤية مشهد انتصاره داخل هذا العالم، بإلهام من فكر منطقي/ عقلاني، يجعل دفاعه منظما وفعالا.

أما الشخص المتدين فيكره هو الآخر رؤية العدل مهزوما، لكنه فى الأغلب يُقصر جهده فى الدعاء له كى ينصره الله، دون القيام بفعل منظم لنصرته، ومن ثم يتأخر مشهد انتصار العدل على هذه الأرض. هذا التناقض يمتد إلى توصيف الشخص المهزوم نفسه، ففى الثقافة المتمدنة يسمى المهزوم بطلا يقاوم الفساد وهى معايير دنيوية تستفز إلى المواجهة داخل التاريخ بغية تحقيق التقدم. أما الشخص المتدين فيسمى المهزوم مظلوما قهرته قوى الشر الشيطانية فى عالم يحيط به الدنس من كل جانب، ولا يستطيع مواجهتها سوى الله، رب القضاء والقدر.

هكذا تحصل الثقافة المدنية من مفهوم الواجب على ما تريده لنفسها من انضباط واتساق، لأنها تمكنت من خلق بنية قانونية تفرض مبادئه، ونظم سياسية حرة تراقب تطبيقه. أما مفهوم الضمير فيزداد عجزه تدريجيا عن تهذيب مجتمع يميل باطراد إلى الأنانية والقسوة، ويقترب تدينه من حافة المظهرية. ورغم أن الثقافة الدينية تنطوى ضمنا على المبدأ المؤسس لمفهوم الواجب الذى يكاد ينطق به الحديث الشريف: حب لأخيك ما تحب لنفسك، فإنها لا تضع قواعد منضبطة لتطبيقه.

نعم يجرى تكراره فى سياق الجدل النصي، لكنه لا يُستدعى إلى حلبة الواقع إلا فيما ندر. المفارقة هنا أن فعالية مفهوم الواجب فى تحقيق أهدافه، ورسوخه فى نفوس المتمدنين أكسبته مزايا مفهوم الضمير، فالشخص الذى يعتاد احترام القوانين، ويتأكد عبر التجربة أنها وضعت لمصلحته، ينسى عبر الزمن أنه يطيع القوانين خشية العقاب، ويتحول سلوكه إلى تقليد ذاتي، يمارسه بتلقائية تكاد تبلغ حد الصوفية، فهو يلزم الصواب حتى لو أمن العقاب، لا يكسر إشارة مرور ولو فى شارع فارغ من المراقبة، وتلك هى نقطة الذروة فى الأخلاق الإنسانية، عندما يتحول القانون إلى تقليد معتاد ثم فضيلة ذاتية.

وحدها الحرية الإنسانية، إذن، المنبثة فى دساتير علمانية ونظم ديمقراطية، تستطيع أن تكسر كهف التدين الشكلي، وتهاجم النفاق الأخلاقي، وتصوغ مثالا أخلاقيا مدنيا معقولا وفعالا. وحدها الحرية قادرة على أن تلهم أبطال الإنسانية، الذين يدافعون عن الحق لأنه فضيلة، ويكرهون الظلم لأنه رذيلة دون تفكير فى عوائد مواقفهم أو تكاليفها، فيا له من أمل: أن نمتلك الحرية ونستعيد الأخلاق معا، كى نتقدم.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
التنوير الراديكالي ونزعة الشك الفرنسي

انطلق الفكر الأوروبى الحديث من الكوجيتو الديكارتى الذى وضع الفكر فى مقابل الامتداد. الفكر هنا يعنى العقل والروح وكل ما يمت للمعنويات كالعقيدة الدينية.

كانط. . رسول العقل الإنساني

اهتمت جل فلسفات التنوير بترقية الإنسان إلى موضع الكائن العاقل الحر، ومن ثم سعت إلى تحريره من قيدين أساسيين: أولهما المدركات الخرافية التي تعطل مسعاه في

الفلسفة المثالية بين التنوير والمسيحية

تحدثنا فى المقال السابق عن ثلاث مدارس في نظرية المعرفة تحكمت في أنماط التنوير الأوروبي: المثالية الذاتية، والتجريبية الحسية، والمثالية التجريبية. يشيع

الأكثر قراءة