Close ad

التركية العثمانية وأنهار الدماء! (18)

28-12-2020 | 11:31
الأهرام اليومي نقلاً عن

استغل نظام الخلافة التركى العثمانى ظروف الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918) ونفذ عملية الإبادة ضد الأرمن بدءًا من 24 أبريل 1915، فسكت العالم كما سكت على حملات إبادة الهنود الحمر، وعلى حملات إبادة وتهجير الفلسطينيين من وطنهم وأراضيهم وبيوتهم، وعلى خلاف العالم الصامت، جاءت ردود الفعل والمواقف العربية رائعة، لا تزال محفورة فى الوجدان الأرمنى شعبًا وحكومةً ومهجرًا.

ومن ذكريات أيام مذابح الأرمن فى تركيا أن استنكر الشريف على حيدر هذه المذابح، ونبه طلعت باشا ــ أحد أهم أضلاع الشر ودعاة العنف ضد الأرمن فى دولة الخلافة العلية - إلى أن العالم سيُلقى تبعة هذه الفظائع عليه شخصيًّا، وكان الغريب أن يرد عليه هذا الوزير العثمانى بأن هؤلاء الأرمن لعنة حاقت بوطنهم، زاعمًا أنهم كانوا يعيشون فى أمان ورخاء مع بقية الشعب دون أن يعترض سبيلهم أحد، وأنهم الآن لا همًّ سوى إثارة المتاعب، وجعل هذا الوزير يقول إنه من المتعذر كبح جماح الجنود، حين يُوفدون لتأديبهم، بل أبدى خشيته ـ بلا خجل ولا حياء ـ من أنهم لا يستطيعون القضاء على جنسهم، لأنهم يتوالدون كالذباب!

والواقع أن حملات إبادة الأرمن سابقة على سنة 1915، فقد جاء السلطان عبد الحميد الثانى إلى الحكم (1842)، حاملاً شعار الاستبداد، والحملات المحمومة ضد الأقليات، وفى مقدمتهم الأرمن. ومن مآسى عام 1915 الأشد إظلامًا فى تاريخ الدولة التركية العثمانية العلية أن أُجبر فى الأول من يونيو 1915 أكثر من ثلاثة آلاف من الأرمن، معظمهم من النساء والأطفال، على ترك دورهم فى خربوط وأُخرجوا بصحبة نحو 70 من معاونى الشرطة، على رأسهم أحد الأتراك من أصحاب النفوذ ويدعى ك . بك، ولدى وصول ركب المرحلين قسرًا إلى هانكوى، حصل ك . بك من كل شخص أربعمائة جنيه نظير تأمين سلامتهم لحين وصولهم إلى ملاطيا، مع وعدهم باصطحابهم بعد ذلك حتى أورفان لحمايتهم، ولكنه بدلاً من تلك الحماية التى وعدهم بها فر بما معه من النقود التى حصلها منهم. ولدى وصول القافلة المهجرة قسرًا إلى توتليكوى فى اليوم الثالث، انقض عليهم البدو والأكراد، ليخطفوا النساء والفتيات الصغار، وبتحريض من ذات الحرس المعين لحمايتهم، الذين جعلوا يحرضون القبائل الجبلة البربرية على مهاجمتهم لسرقتهم وقتلهم واغتصاب نسائهم واختطافهم، ولم يقصر هؤلاء الجنود فى اغتصاب النساء بأنفسهم علنًا! وفى اليوم السابع، لم يكن قد تبقى سوى 185 نسمة!!

ويروى بعض شهود العيان، أنهم فى اليوم الخامس عشر صعدوا بشق الأنفس المطلع الحاد للجبل، حيث قطع الجانحون الطريق عليهم وحاصروا مائة وخمسين منهم ممن تتراوح أعمارهم بين15 و90 سنة، وساقوهم إلى مكان قصى، حيث قاموا بقتلهم جميعًا ثم عادوا لسرقة الباقين من المرحلين واغتصاب النسوة والفتيات.

وفى رواية جان مارى كارزرو (أريك العدد 63 ديسمبر 2015) أنه فى ذات اليوم قدمت قافلة أخرى من المرحلين تضم ثلاثمائة رجل قادمة من سيـاز وآجن وتوجاد، انضمت إلى قافلة خربوط ليكونوا معًا قافلة أكبر وصل عددها إلى 18 ألف نسمة، ورحلوا فى اليوم السابع عشر تحت الحماية المزعومة لبك آخر كردى، استدعى رجال قبيلته وقاموا بسلب ونهب القافلة.

وفى اليوم العشرين، وصل الباقون من القافلة إلى قرية جونليك، حيث خرج أهالى القرية عن بكرة أبيهم، ليتتبعوا القافلة لمسافة طويلة، قاموا خلالها بسلب ونهب وتعذيب المرحلين، واختطاف من تيسر لهم خطفهم من النساء والفتيات.
ووصلت هذه القافلة، التى تتآكل كل يوم فى اليوم الأربعين، إلى مشارف نهر مراد، أحد روافد نهر الفرات ، ليجدوا فى انتظارهم أكثر من مائتى جثة حملتها المياه على سطح النهر ، وعليها آثار الدماء وضربات السيوف ، وليعثروا على ضفتى النهر على ملابس داخلية وسراويل ملطخة بالدماء التى سفكت .

ولم تكن البقية التى بقيت لليوم الخمسين أحسن حظًا ممن سبقوهم إلى الموت ، فقد جعلت قبائل الأكراد الجبلية تجردهم من كل ما تبقى لديهم، وتسيرهم عراة تحت لهيب الشمس المحرقة، ولمدة خمسة أيام لم يحصل هؤلاء التعساء على أى ماء أو زاد، فسقطوا تباعًا صرعى للجوع والعطش، حتى إذا ما وصلت بواقى البواقى من هذه القافلة التعسة إلى نبع ماء، أغلق عليهم عساكر الجندرمة الطريق، وباعوهم كوب المياه بسعر تراوح بين الجنيه والثلاثة جنيهات فى مشهد يوجع القلب.

وعندما وصل هذا الركب إلى حلب، فى اليوم السبعين، لم يكن قد تبقى منهم سوى خمسة وثلاثين سيدة وطفلا، ومائة وخمسين سيدة هن من بقين من الراحلين من خربوط من أصل تلك القافلة البالغة ثمانية عشر ألف نسمة. فى تلك الأيام السوداء، بدا واضحًا لكل مراقب منصف أن الجارى فى تركيا، إنما هو إبادة حقيقية للشعب الأرمنى الذى وضعه حظه العثر فى بقعة من العالم خاضعة لهذه النظرة الدموية التى تستطيع أن تقول ــ بلا مغالاة - إن كل عدد السكان الأرمن قد خضع فى إقليم بعد إقليم لإجراءات مشددة بدأت بقيود الانتقال، لتتحول إلى النقل الذى اقترن بهذه المآسى التى تصب جميعها فى إبادة جماعية تدار بقلوب ميتة وضمائر أكثر مواتًا، يطل فيها دائما وجه طلعت باشا وزير الداخلية المسئول عن كل تلك العمليات، ليدل على أن تلك العمليات كانت نتيجة مداولات طويلة، دلت على أن أرمينيا والأرمن مستهدفون بتخطيط متعمد مرسوم فصوله لتصفية هذا الشعب فى عمليات إبادة جماعية تحجرت فيها القلوب وماتت الضمائر!!

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الخلافة ليست من أصول الحكم في الإسلام (7)

من غير المعقول ألا يعرض الأستاذ العقاد، المعروف بموسوعية إطلاعه وموسوعية كتابته ومؤلفاته، ألا يعرض لهذه القضية البالغة الأهمية التى ازداد الاهتمام بها

الخلافة ليست من أصول الحكم في الإسلام (6)

كتاب الشيخ علي عبدالرازق الإسلام وأصول الحكم لا يزال قبلة معظم الناس، بل صفوة المفكرين والكتاب، رغم مضي نحو قرن من الزمان على صدوره سنة 1925، ورغم كتابات

الخلافة ليست من أصول الحكم في الإسلام ! (5)

ليست هذه أول مرة أتصدى فيها للبحث وتكرار البحث والتصدى لفكرة الخلافة، وإثبات أنها لا تنبع من أصل من أصول الإسلام، وسبب معاودتى الحديث فى هذا الموضوع المهم،

الخلافة ليست من أصول الإسلام! (4)

معالم الحكم الواضحة في المبادئ قطعية الدلالة التي استنها القرآن الحكيم، أن الحكومة حكومة مدنية، بمعنى أن القائم على الأمر ليس ممثلاً لله عز وجل، ولا يملك

التركية العثمانية وأنهار الدماء! (10)

واجهت دولة الخلافة العلية التركية العثمانية، ثورة كبيرة باليونان التى نهضت تطلب استقلالها عن الدولة العلية، وتكبدت الجيوش العثمانية خسائر فادحة في كل المحاولات