يحتفل الأوروبيون وأهل الغرب هذه الأيام بميلاد السيد المسيح، بينما ينتظر أقباط مصر والكنيسة الأرثوذكسية حلول السابع من يناير المقبل ليطفئوا الشمعة الحادية والعشرين بعد الألفين للميلاد المجيد، ونتذكر اليوم, أنا وباقى أفراد الأسرة, ميلاد والدنا وعميد العائلة الفنان الشاعر صلاح چاهين, الذى جاء للعالم فى الخامس والعشرين من ديسمبر عام 1930، وغادره بالجسد منذ ما يقرب من خمسة وثلاثين عاما, ومازال بيننا حيا يُبدع, ويزداد سطوعا كل عام يمر. وها هو العام الخامس والثلاثون منذ رحيله يُشرق وسط غيوم سوداء, سوف تنقشع قريبا بإذن الله, وبإشعاع جوهرة العلم التى أودعها عقول بنى آدم, مخلوقاته المكرمة بنور المعرفة والفكر والإبداع.
ومن إبداعات چاهين قصيدة ميلاد، المكتوبة من ستين عاما (1960)؛ كتبها حين هالَهُ أنه - فجأة - بلغ الثلاثين! وها هو قد تخطى الثلاثين هناك، فى حديقة الورد الذى لا يذبل، ومازال إبداعه بيننا على الأرض أيضاً فى عنفوان النضارة والصبا. يقول فى ميلاد: «بعدت ولادتى فى الزمن تلاتين سنة/ صبحت تاريخ.. زى السيوف والسقايين/ زى الشراكسة والشموع والسلطنة/ زى الخيول.. ضاعت سنينى فى السنين». لا، لم تضع سنينك يا أبي، بل ازدادت رسوخا, لأن كلماتك هى - كما وصف الله الكلام الطيب - كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها فى السماء تؤتى أكلها كل حين, لأن ما ينفع الناس يمكث فى الأرض، وأنت عشت وأبدعت للناس, وكنت دوما بينهم، منهم وإليهم وعنهم كتبت ورسمت، ولذلك أحبك الناس وحفظوا فى قلوبهم إبداعك ونقشوا صورتك، وحفروا قلبهم فى جذع شجرتك الطيبة ومعه أسماؤهم وسهم الحب الذى أبدا لا يموت، لأن ذكرى الحب كذكراك خالدة، ما عاش الحب والشعر فى قلوب الناس.
وعن ابتسامتك فى المهد بين أحضان أبوين متحابين، قلت أيضا فى قصيدتك: «آدم وحوا شقطونى فى الهوا/ زى المخدة الريش ولعبوا فى السرير/ صرخت ضموا الصرخة بالحضنين سوا/ ونعست.. نمت سعيد فى المهد الحرير».. ومرت الأيام, والأعوام صارت ثلاثين, وأصبحت البسمة مريرة بعض الشىء وحزينة، لأن الحياة تقسو مع الوقت ومع اكتشاف منابع الألم؛ وختمت قصيدتك متأملا وجهك الذى بلغ الثلاثين، متسائلا: «يا هل ترى الطفل اللى نايم يبتسم/ من خلف جدران فى العدد تلاتين سنة/ هو الحزين, هو البدين المِلتِحِم/ هو أنا يا رب.. واللا مش أنا؟». نعم, أنت - كنت وما زلت - ذلك الطفل السعيد المبتسم فى مهده. مهما تمررت الحياة ظل قلبك بريئا. وها أنت عند الله قد تحممت فى نهر البُرء من الحياة الدنيا وعضات نابها الأزرق، ومازلنا نحن هنا نتخبط ونقاوم الغرق, ونتشبث بخشبة الأمل لنطفو, ونجاهد لنصل لبر الأمان، ونتذكر كلماتك عن بلسم المحبة, حين قلت فى إحدى رباعياتك: «بحر الحياة مليان بغرقى الحياة/ صرخت خش الموج فى حلقى ملاه/ قارب نجاة, صرخت, قالوا مفيش/ غير بس هو الحب قارب نجاة».
عجبى !!على حياة هى حالة ميلاد دائم، والحبُ ماءُ سُقيا الحياة والإنبات، والعلم شمس العقل التى من دونها لا تتم عملية التمثيل الضوئيّ فتسعى وتنشط وتشب وتدب الكائنات. وما دام الحُب يبدع, والعلم يقود, فلا خوف بإذن الله على حالة الميلاد المتجدد فى وجه الموت ووسائله التى لا تُرى بالعين المجردة، والتى أذن بوجودها الرحمن ليحدث التوازن البيئى فلا تفسد الأرض. عيد ميلاد مجيد, وعام جديد, بالعلم والحب والعدل لنحاولْ أن نجعله بإذن الله سعيدا.