عبارة مألوفة يرددها الناس حين يلتقون الأحبة، إن كانوا من الأهل أو رفاق دراسة أو أصدقاء الطفولة بعد طول غياب.. وهؤلاء الناس أنفسهم هم من يشعرون بالملل وبطء الوقت وثقله، انتظارًا لطبيب في عيادة أو ترقبًا لظهور نتيجة أمر ما، مثلًا..
هذا الشعور ليس شعور زماننا، بل هو سمة البشر في إحساسهم بالزمن، ففي الشعر العربي يسجل لنا امرئ القيس في معلقته الشهيرة كراهيته لطول ساعات الليل حين يقول:
وليلٍ كمَوجِ البحر أرخى سدولَه.. علي بأنواع الهموم ليبتلي.
وهذا أمير الشعراء أحمد شوقي يرصد استغرابه مرور الوقت الجميل سريعًا، حيث يقول:
سَأَلتُ القَلبَ عَن تِلكَ اللَيالي.. أَكُنُّ لَيالِيًا أَم كُنَّ ساعًا
فَقالَ القَلبُ بَل مَرَّت عِجالًا.. كَدَقّاتي لِذِكراها سِراعًا
والسؤال لماذا يتسارع الوقت للناس بشكل مختلف؟ وهل للتقدم في السن علاقة في الإحساس المختلف بالزمن؟.. بمعنى هل يتخلف شعور وإحساس كبار السن بالزمن عن الأطفال والشباب؟
كلنا يدرك معنى مرور الزمن، فالحاضر فور وقوعه يصبح ماضيًا، واليوم سرعان ما يتحول إلى أمس، وعندما تصل إلى مرحلة البلوغ وما بعدها، سيزداد شعورك بمرور السنين وتعاقب الفصول والأيام.
صحيح هناك فرق بين الوقت والزمن، إذ يمكنك أن تتحكم في الوقت، لكن لا يمكنك التحكم في الزمن، ورغم ذلك فوحدات قياس الوقت كالثانية والدقيقة والساعة تابعة للزمن..
حاول كتاب "صُنع الوقت" للمؤلف البريطاني ستيف تايلور الإجابة عن سر تسارع أو تباطؤ الزمن لدي الناس، ولماذا يملك الناس تصورات مختلفة عن الوقت، وكيف يؤثر ذلك على إحساسهم المختلف بالوقت.
يقول المؤلف يوجد لدى كل إنسان شعور داخلي بمرور الوقت، ويختلف هذا الشعور من شخص إلى آخر، كما أنه يعتمد على الحالة النفسية للإنسان. فمثلا، ينقضي الوقت بسرعة بالنسبة للإنسان إذا ما كان غارقًا في العمل، بينما يمضي متثاقلا في حالة الملل أو الشعور بالألم.. وبالنسبة للأطفال، يستغرق العام وقتًا أبديًا طويلًا، خاصة في نظرتهم لطول العام الدراسي، في حين يشكل العام لمحة سريعة في سن الشيخوخة..
لكن بعض العلماء يرجعون هذا الأمر إلى عملية حسابية يبتكرها عقل الإنسان معتمدًا على الفترة التي عاشها من حياته، فالعام الواحد يُمثل ثلث الحياة بالنسبة لطفل في الثالثة من عمره، في حين تُمثل هذه السنة جزءًا بسيطًا من حياة عجوز في التسعين من عمره، في أعوام حياة الإنسان الثلاثين الأولى، تحدثُ له الكثير من الأمور، فهو يذهب إلى المدرسة، والجامعة، ويبحث عن عمل، ويلتقي بالأصدقاء، ويبدأ بالتعرف على نصفه الآخر، ويكتشف ويطور ميوله ومواهبه.. ما يعني أن إدراك عقل الإنسان لمرور الزمن مسألة تتناسب بشكل طردي مع عمره.
رغم أن علماء الأعصاب لم يعثروا في الدماغ على ساعة واحدة مسئولة عن رصد مرور الوقت، إلا أن البشر لديهم قدرة فائقة على تقدير الزمن.
فلو أن شخصًا ما أبلغك أنه سيصل في غضون خمس دقائق، يمكنك تقدير الزمن المتبقي لوصوله، وكلنا يستطيع تقدير الأسابيع والشهور، ولهذا قد يقول معظم الناس إن الوقت يمر بوتيرة ثابتة وقابلة للقياس، وفي اتجاه واحد من الماضي إلى الحاضر.
لا جدال أن نظرة البشر للزمن ليست محصلة عوامل بيولوجية فقط، بل أسهمت في تشكيلها أيضًا عوامل زمنية وثقافية، فالدراسات العلمية اكتشفت أن قبيلة أمونداوا في الأمازون مثلا، لا تعرف معنى الوقت، أي لا يدرك أفرادها الإطار الزمني الذي تقع فيه الأحداث، ولا تضم مفردات لغتهم كلمة "وقت".
وكان أرسطو ينظر للحاضر على أنه دائم التغير، وفي عام 160 م وصف الفيلسوف والإمبراطور ماركوس أوريليوس الزمن بأنه "نهر من الأحداث العابرة".
وفي القرن الماضي، غيّرت اكتشافات العالم ألبرت أينشتاين مفاهيمنا عن الوقت رأسًا على عقب، إذ برهن على أن الزمن هو محصلة مؤثرات خارجية عديدة، وأثبت أن الزمن نسبي، فقد يتباطأ عندما تتحرك الأشياء بسرعة فائقة، وأن الأحداث لا تقع بالتسلسل، فلا يكاد يتفق اثنان على كلمة "الآن".
نعم لا يتفق اثنان على كلمة الآن، ولا يتفق اثنان على سرعة أو تباطؤ الوقت في نفس التو واللحظة، فقد يمر عليك سريعًا، وأنت تُقلب ذكريات الماضي مع الصحب والأهل، وقد يقتل غيرك ثقله في حالة انتظار وترقب..
وهكذا، نُقلب جميعًا صفحات الوقت عبر الزمن، كُل وفق مفاهيمه وإحاسيسه وشعوره وأهدافه، لكن تحتوينا جميعًا بوتقة الحياة، وهذا سر من أسرار الإعجاز الإلهي في خلقه..