ما زال مصطلح التطبيع مع إسرائيل أحد أكثر المصطلحات إثارة للالتباس والجدل. بالمفهوم اللغوي يعني مصطلح التطبيع تحويل علاقة عداء أو خصام إلى علاقة طبيعية وهذا أمرٌ وارد حين يتوافر للتطبيع مبرراته وشروطه لأنه لا يوجد في التاريخ صراعات أبدية ولا ربما صداقات أزلية. ورغم مضي ما يزيد على الأربعين عاما منذ أول اتفاق سلام بين دولة عربية هي مصر وإسرائيل فإن علاقة المصريين كشعب بالدولة العبرية مازالت تستعصي على التطبيع.
وما زال الإسرائيليون يتساءلون بدهشة أظنها مصطنعة عن سر رفض تطبيع العلاقات معهم قائلين إن الزمن تغيّر وإننا أصبحنا في عام 2020 وهذا صحيح لكن هل تغيرت سياسات وممارسات إسرائيل؟ يتجاهل الإسرائيليون أن التطبيع (نتيجة) للسلام وليس (سببا) له. ويتحقق السلام ببساطة حين يحصل كل طرف متنازع على حقوقه ويؤدي ما عليه من التزامات، وهذا ما لا تريده إسرائيل لأنها تعتقد أن قوتها تمنحها كل الحقوق وتعفيها من أي التزامات، وهذا بالضبط هو موضع الخلل.والحقيقة أن مصطلح التطبيع يحتاج لقدر كبير من التدقيق وربما التصحيح لأنه يتسم في مجمله برؤية أحادية (وحادة) سواء من جانب المؤيدين للتطبيع أو الرافضين له. ولنحاول توضيح الأمر من خلال الملاحظات التالية.
الملاحظة الأولي أن مصطلح التطبيع المشتق لغويا من وصف طبيعي ينطوي على قهرية لغوية حين يجعل ما هو غير طبيعي من حيث المبدأ أمرا طبيعيا في الواقع، وهو ما لا يمكن أن يُبرّر إلا بما يسنده من منطق أن التطبيع في علاقات العداء أو الصراع يجب أن يكون نتيجة للسلام وليس سببا له، وإلا فما الذي يدفع أحد الطرفين إلى الالتزام به إذا كان قد حصل مقدما على ما يريد؟! والواقع أن المصطلح البديل الأكثر وضوحا واستقامة من التطبيع هو السلام ذاته.
لكن مصطلح السلام يفرض بالضرورة على طرفيه التزامات متبادلة مقابل حقوق متبادلة. وإسرائيل لا تريد السلام بهذا المعنى المنطقي والسوي بالرغم من أنها لا تكف عن الحديث عنه لأنها ليست مستعدة لفكرة الالتزامات والحقوق المتبادلة المفترض أنها تقوم على الإنصاف أو التوازن بالحد الأدني. ودليل ذلك أن شعار مؤتمر مدريد 1991 كان هو الأرض مقابل السلام، ثم أصبح لدى إسرائيل الأمن مقابل السلام، وأخيرا حوّلت إسرائيل الشعار فعليا إلى السلام مقابل السلام أو التطبيع مقابل التطبيع.
ولو أن هناك سلامًا عادلا بين إسرائيل والفلسطينيين بوجه خاص، وبينها وبين العرب عموما بحكم أن هناك أرضا سورية وأردنية بل ولبنانية ما زالت تحتلها إسرائيل، لو أن هناك مثل هذا السلام العادل لما احتجنا إلى إقحام أو اصطناع التطبيع لأن السلام العادل يصبح شاملا وبالتالي تصبح العلاقات السياسية والاقتصادية وربما الثقافية أمرا طبيعيا بين العرب وإسرائيل، ولما احتجنا أصلا إلى كلمة التطبيع، لكن ذلك يغيب عن الإسرائيليين المندهشين من الرفض العربي للتطبيع.
الملاحظة الثانية أن الرؤية العربية الرافضة للتطبيع يجب ألا تسقط في فخ التماهي مع خطاب الكراهية والرفض العنصري لليهود كأصحاب ديانة إبراهيمية، وهذا ما تحاول إسرائيل دائما تصويره (وتصديره) إلى العالم لتشويه موقف الرافضين لتطبيع العلاقات معها. الرؤية الرافضة للتطبيع يجب أن تظل رؤية متمسكة برفض مشروع التوسع الصهيوني وممارسات إسرائيل المنهجية في تكريس واقع تهويد وضم الأرض التي ما زالت توصف بالمحتلة وفقا لأحكام القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، واستمرار الاحتلال، والقمع، والفصل العنصري، وانتهاك الكرامة الآدمية للفلسطينيين.هذه هي الأسباب الحقيقية التي يؤسس عليها رفض التطبيع والتي بمعالجتها باتفاق سلام عادل يصبح التطبيع طبيعيا. لكن المشكلة تكمن في أن إسرائيل تريد كل شيء وتتنصل من أي شيء، وهنا مرة أخري موضع الخلل في المسألة كلها.
تحاول إسرائيل أن تلوي الحقيقة وتجعل رفض التطبيع معادلا للكراهية وموقفا عنصريا ومعاداة للسامية وهذه مغالطة بل أكذوبة كبري لأن اليهود عاشوا بسلام وازدهار بين العرب خلال حقب تاريخية ممتدة ولم يرتكب العرب ضدهم ولو مثقال ذرة مما تعرضوا له في أوروبا. ظلت إسرائيل تصوّر نفسها لعقود طويلة حملا وديعا في مواجهة الذئاب العربية التي توّد افتراسها وإلقاءها في البحر ثم ها هي الآن بلسان رئيس وزرائها نيتانياهو تتباهي بقوتها واستقوائها بقوله إن إسرائيل نجحت في فرض التطبيع وإقامة علاقات دبلوماسية مع بعض العرب لأنها قوية ولهذا لم تدفع مقابلا لهذا التطبيع. هكذا تفتخر إسرائيل اليوم بأنها نموذج الدولة الذئب في تعاملها مع الحملان العربية بعد أن كانت دعايتها تروّج لها كحمل وديع وسط الذئاب العربية الضارية.
الملاحظة الثالثة أن الرؤية المؤيدة للتطبيع المجاني مع إسرائيل تقدم تفسيرا (ظاهريا) مؤداه أن توازن القوي اليوم يميل بشدة إلى إسرائيل، وبالتالي فمن الواقعي التعامل معها على أساس أنها القوة الإقليمية العظمى في المنطقة.
الوعي الذي يجب تصحيحه هنا أن معادلة القوة الإسرائيلية والضعف العربي لا تعني بالحتم التنازل بلا ثمن عما لم تكن تحلم به إسرائيل يوما، فليس عيبا لأي دولة أو أمة أن تكون ضعيفة في مواجهة طرف قوي في حقبة تاريخية معينة لأن أحدا لم يطالب أحدا بإعلان الحرب على إسرائيل. العيب هو التنازل المجاني عن حقوق عربية عادلة ومشروعة والتسليم لإسرائيل بقيادة المنطقة سياسيا واقتصاديا.والمفارقة التي لم ينتبه إليها البعض في هذا العالم العربي الفسيح في جغرافيته الضيق في أفقه أن الحقوق العادلة والمشروعة للفلسطينيين أصبحت تجد لها في الغرب تفهما وتأييدا من جانب حكومات ومؤسسات إنسانية وأوساط أكاديمية وثقافية وشبابية بأكثر مما تجد في عقر البلدان العربية نفسها. مع كل عام جديد تزداد فيه إسرائيل غطرسة وهيمنة وتتقادم فيه ذكريات ما تعرض له اليهود في الحرب العالمية الثانية تتقلّص مساحة التعاطف العالمي مع إسرائيل وتنشأ أجيال جديدة ذاكرتها طازجة ومتخمة بالفيديوهات الموثّقة لما تفعله إسرائيل بالفلسطينيين.
خلاصة القول أن الأسباب الحقيقية الكامنة وراء انتشار دعوات ومقدمات تطبيع البعض مع إسرائيل تخفي حقيقة أن العرب يعيشون اليوم أزمة ثقة بالنفس واضطرابا في التصوّرات وحالة شك متبادل في الآخر العربي مقابل ثقة غير مفهومة ولا مبرّرة في الآخر الإسرائيلي. تستغل إسرائيل هذا الاضطراب النفسي لتدق أكثر على وتر التطبيع لأنها تدرك أن هذه فرصتها السانحة قبل أن تتغيّر الأحوال والمعطيات فلا شيء ثابت في هذا العالم المتغيّر. رهان إسرائيل على التطبيع من دون أن تدفع مقابلا رهان غير مطمئن ولو أنها تريد السلام حقا لأعادت الحقوق إلى أصحابها وكفّت عن الطمع والهيمنة والقمع والتمييز العنصري وعندها ستصبح علاقاتها مع العرب علاقات (طبيعية) من أوسع الأبواب وليست علاقات (تطبيع) مصطنعة بأكثر مما هي مقنعة. فهل يفهم المندهشون من رفض التطبيع ذلك؟
* نقلًا عن صحيفة الأهرام