لا أعرف لماذا نقسو على أنفسنا لهذه الدرجة بألا نتوقف عن السخرية من كل شيء وأي شيء.. مؤخرًا سخر البعض من فكرة ري الأراضي الزراعية فى مصر بالموبايل.. لماذا سخروا؟! وما الهدف من تلك السخرية؟! ولماذا لم ينتظروا حتى تنتهي التجربة وتصل إلى النتيجة بالنجاح أو الفشل؟!
الإجابات صعبة التوقع.. كأنهم لا يصدقون ويستكثرون على مصر الضاربة فى أعماق التاريخ والتي لديها خبرة قرون طويلة بالزراعة أن يمسك الفلاح فيها بهاتفه الحديث الذكي ويروي الأرض وهو في مكانه!
أو يتعجبون أن يستريح الفلاح قليلا ويترك التكنولوجيا تعمل كثيرًا.. ويلزمونه بأن يظل منكفئًا على محراثه وفأسه وبقرته التي تساعده فى حرث الأرض كصورة نمطية منقوشة على الجدران الفرعونية.
وزير الموارد المائية والري الدكتور محمد عبدالعاطي شرح ووضح فكرة مشروع الري بالهاتف المحمول، وقال إن التطبيق جرى تصميمه من أجل مساعدة الفلاحين على استخدام التكنولوجيا الحديثة في الري، وسيطبق بعد 6 أشهر على مُزارع يستخدم الري الحديث في محافظة الدقهلية، لزراعة 70 فدان".
واستكمل عبدالعاطي شرحه بأن التطبيق فكرته بسيطة، وتقوم على استخدام مجسات لقياس رطوبة التربة، وترسل إشارة إلى المزارع على هاتفه المحمول، تشير إلى حاجة الأرض للري، ومن ثم يمكن ريها في الوقت والموعد المطلوب، وهو ما يوفر المياه".
فكرة التطبيق تقوم على مساعدة صغار المزارعين في مصر، على تحسين إنتاجية المحاصيل، وتوفير مياه الري، ويمدهم بمعلومات عن الطقس وأنواع المحاصيل، وكمية التبخر، والإنتاجية الأولية الصافية للمحاصيل الرئيسية، ومن ثم استخدام تلك البيانات لتحديد كمية المياه المطلوبة بناءً على نوع المحصول، ونظام الري المناسب، إلخ.
الوزير دافع عن نفسه ووزارته - ضد ألسنة الساخرين - بأن تجربة استخدام الري عن طريق الموبايل ليست وليدة في مصر، لكن تطبقها دول عديدة.
وللحقيقة نعم.. دول العالم قد سبقتنا بالفعل فى استخدام الري عن طريق الموبايل.. وهناك 4 دول أفريقية توفر ملايين الجنيهات سنويًا من استخدام تطبيقات الهواتف الحديثة لنظم الري ومكافحة الآفات وغيرها من أساليب الزراعة.
ففى نفس هذا الشهر – ديسمبر – من العام الماضي كنت حاضرًا في أسبوع أبو ظبي للاستدامة والذي يُخصص جوائزه لمن يجعل التنمية مستدامة فى بلده ويوفر الملايين سنويا عليها..
وكان من ضمن الفائزين، شاب غاني اسمه "مصطفى ضياء الحق"، ظهر كأنه بطل أسطورى فى الروايات الشعبية، لم يتجاوز عمره 22 عامًا، ورغم ذلك أخرج من عقله العبقري تطبيقه الذكي كأنها عصاة سحرية ضرب بها الأرض، فوفرت الملايين.. في دولته غانا و3 دول مجاورة هي نيجيريا، توجو، بوركينا فاسو.. ثم حصد المركز الأول وجائزة قدرها 600 ألف دولار من "جائزة زايد للاستدامة".
تطبيق ضياء الحق قائم على الذكاء الاصطناعي، وتركيب كاميرات عالية الحساسية في الأرض الزراعية لمتابعة الآفات والحشرات ومن ثم تحليل البيانات للتنبؤ بالأمراض وآفات المحاصيل واكتشافها وتقديم الحلول الموصى بها في الوقت الحقيقي.
وقد مكن التطبيق المزارعين من تخفيض النفقات المتعلقة بشراء مبيدات الآفات الزراعية بنسبة تصل إلى 50%، وهو ما ضاعف من تقليل التكاليف، وأدى إلى زيادة الأنتاج مما أدى إلى زيادة الأرباح والدخل.. أى ضرب ضياء الحق عصفورين بحجر واحد .. قلل التكاليف وضاعف الإنتاج.. وعنئذ طلب التطبيق 3 دول مجاورة لغانا.
ضياء الحق قال لي: "إن تطبيقه يعمل دون اتصال بالإنترنت، وساعد نحو 10 آلاف شخص في الحصول على الغذاء الآمن والمغذي.. نظير استخدام المبيدات عند الضرورة فقط"، أو كما نقول لا يرشون المبيدات "عمال على بطال".
يمكن أن نستدعي "ضياء الحق" الغاني إلى مصر لنتعلم منه ونستفيد من تجربته، ليس عيبًا على مصر أن تستعين بإخوانها من القارة السمراء، وكما استعان النادي الأهلى بمدرب من جنوب أفريقيا، وفرحت أفريقيا السمراء كلها بهذا الاختيار.. يمكن أن نفرح أيضا باختيار أبناء القارة كخبراء فى الزراعة والذكاء الاصطناعي.
وكما نجح ضياء الحق فى سن صغيرة.. يمكن أن تنجح البنات الصغيرات عندنا في المحروسة في مدرسة المتفوقين للعلوم والتكنولوجيا للبنات في المعادي.. حين قدمن أمام وزير الري، مشروعًا بحثيًا اعتمادًا على تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء، واستخدام تقنيات الري الذكي لمساعدة صغار المزارعين.
نحتاج فقط إلى الثقة فى أنفسنا، وسرعة تطبيق الأبحاث، وعدم الالتفات إلى القلش والسخرية والقسوة على الذات.. فكما فعلها غيرنا يمكننا أيضًا أن نفعلها.