ارتبط مفهوم الهوية القومية فى العالم الحديث بنشأة الدولة الأمة وتطور الحركات القومية الأوروبية، فى سياقات اقتصادية واجتماعية وثقافية محمولة على تطور الرأسمالية الأوروبية، وتوسيع الأسواق وتوحيدها داخل كل دولة. من هنا ارتبط التنوير الأوروبي، والعقلانية، ومفهوم التقدم، ودولة القانون الوضعى الحديث، وهندساته الاجتماعية المرتبطة بالنظم الليبرالية التمثيلية، ومن ثم تعبير الأنظمة القانونية عن المصالح الاجتماعية والاقتصادية للطبقات المسيطرة، مع الأخذ فى الاعتبار مصالح اجتماعية لقوى أخرى لتحقيق التوازن والاستقرار والسلام الاجتماعي.
تجسد مفهوم الهوية القومية القانونى مع وضع قوانين الجنسية، وتحديد المواطنة والمواطن وفق مفهوم القانون الداخلي، أو نظم القانون الدولى الخاص المقارنة. البُعد القانونى للهوية والمواطن يشكل أحد أبعاد مفهوم المواطنة وحقوقها. فى الحالة التاريخية المصرية ولدت مفاهيم الهوية القومية فى إطار تطور عمليات بناء الدولة الحديثة، واستعارت المنظومات والهندسات القانونية الأوروبية من الإطار المرجعى الإيطالي، وبعض من القوانين الفرنسية كما وضعه المحامى السكندرى ذو الأصول الإيطالية مانوري، للمحاكم المختلطة، ثم تحولت مع تعديلات إلى المحاكم الأهلية. من قلب هذه التطورات، وعمليات التحديث المادى لأجهزة الدولة والمجتمع المدني، بدأ مفهوم الهوية الوطنية الحداثى يتبلور ويرتكز على الثقافة المدنية والقانونية، وعمليات دمج الاقتصاد المصرى فى بنية النظام الرأسمالى الدولى مع تجارة القطن آنذاك.
الحامل الأساسى للقومية المصرية ومبدأ مصر للمصريين، هو الحركة القومية المصرية الدستورية، فى مواجهة نير الاستعمار البريطانى والوحدة الوطنية مع الحركة الجماهيرية العظمى عام 1919، وتبلور زعامات وطنية سياسية ربطت بين الاستقلال والحكم الدستورى والحريات العامة السياسية، والفردية. فى هذا الإطار السياسى القانوني، صدر قانون الجنسية المصرية فى 5 نوفمبر 1914، ثم عالجها المشرع من خلال عدة قوانين متعاقبة بدءا من عام 1936، وتتوافق هذه القوانين على اتفاقية لوزان عام 1923، على الرغم من عدم التزام مصر بها آنذاك ثم تطورت بعدئذ قوانين الجنسية .
هذا الإطار القانونى لم يكن منفصلاً عن تبلور مفهوم الهوية المصرية بالمعنى السياسي، والثقافي، والاجتماعى شبه الحداثي. ترسخ مفهوم المصرية مع نشوء الطبقة السياسية الحاكمة شبه الرأسمالية، وشبه الإقطاعية-، وتشكل ثقافة ليبرالية، ونخبة حاملة لها ولقيمها السياسية والمدنية كنتاج للتعليم المدني، وحركة البعثات الأجنبية، وانفتاح بعض الأزهريين على الحياة الثقافية، ونزوعهم الإصلاحى الديني، وقبولهم بمفهوم الهوية المصرية، وحريات التدين والاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية، ومفهوم التكامل الوطنى بين المصريين على اختلاف انتماءاتهم الدينية والمذهبية والسياسية .
ظهرت جماعة الإخوان المسلمين عام 1928، وقبلها بعض الجماعات السلفية فى أوائل العقد الثانى من القرن العشرين.ارتكزت أيديولوجيا الإخوان على مفهوم الخلافة الإسلامية، وأن جنسية المسلم دينه، وهو ما كشف عن تناقض بين الأفكار التأسيسية للجماعة مع الحركة السياسية والمدنية المصرية، ومع مفاهيم الدولة القومية الحديثة. تشكلت هويتنا القومية عبر تطور الحركة القومية الدستورية فى إطار النظام شبه الليبرالي، وذلك حول مفهوم الأمة المصرية، الذى كرسته الخطابات السياسية والحزبية والثقافية، باستثناء الإخوان المسلمين، وبعض الجماعات الإسلامية المتشددة الصغيرة. من ناحية آخري، أدى الجدل حول الهوية المصرية عربية أم فرعونية كنتاج لعمليات التأصيل الفكرى والتاريخى للهوية وتنظيراتها فى الكتابات التاريخية لعبد الرحمن الرافعي، وصبرى السوربونى وآخرين، وفى الأعمال الروائية لدى نجيب محفوظ، وفى النحت فى أعمال محمود مختار، وفى التصوير التشكيلي، وفى المسرح والسينما، والقصة القصيرة والشعر. فى عديد مكونات الثقافة المصرية، فى المرحلة شبه الليبرالية. بعض الأفكار الدينية المسيحية ظهرت فى أواخر القرن التاسع عشر متمثلًا فى كتاب يعقوب نخلة روفيلة تاريخ الأمة القبطية عام 1898، وبعض الكتابات والبيانات الأخرى فيما بعد الأخري، ونشأة بعض الأحزاب القبطية فى نهاية الأربعينيات من القرن العشرين، نظرًا لأزمة حزب الوفد. فى أوائل نظام يوليو ظهرت جماعة الأمة القبطية، واختطفت البطريرك الأرثوذكس الأنبا يوساب. اعتمد ناصر على فائض القومية المصرية، وسبقها فى التحديث والحداثة وبناء الدولة والنخبة فى إبراز الوجه العروبى للهوية المصرية، يمكن القول إن الخطاب العروبى لناصر كان أحد تعبيرات الحضور القوى لمفهوم القومية المصرية، فى سياقات تحريرية متغيرة. مع هزيمة يونيو 1967، وتوظيف النظام للإسلام فى بناء الشرعية، وكأداة للتعبئة السياسية والاجتماعية برزت أزمة الهوية والصراع عليها من خلال الحركة الإسلامية السياسية، فى محاولة لتفسير الهزيمة، والعمل على تجاوز آثار العدوان بعد أكتوبر 1973، وإعادة توظيف الدين مكثفا فى مواجهة الناصرية واليسار وبعض الليبراليين، ثم استخدام المؤسسة الدينية الرسمية، والإخوان فى عهد السادات فى التركيز على الهوية الدينية لمصر، ومع صراعه مع الجماعات الإسلامية الراديكالية بعد اتفاقية كامب ديفيد، والقطيعة بين غالب الدول العربية ونظام السادات، بدأت عملية تنشيط الجدل حول الهوية مصرية أو عربية.
بعد صعود الإسلام الراديكالي، والفتن الطائفية، ومواقف البابا شنودة الثالث إزاء السادات ذهب السادات فى خطاب شهير له إلى أنه رئيس مصرى لدولة مسلمة. إن تسييس مسألة الهوية، والتلاعب السياسى بها أدى إلى تأثيرات سلبية على الانتماء الوطني، وفى ذات الوقت ساعد الجماعات الإسلامية السياسية والراديكالية، وبعض العاطفيين من الباحثين أو الأعضاء فى هذه الجماعات على تديين مسألة الهوية المصرية.
نقلا عن صحيفة الأهرام