Close ad

التركية العثمانية وأنهار الدماء !(15)

7-12-2020 | 13:14

خُلع السلطان عبد الحميد وعُزل من الحكم، غير مأسوف عليه، ليبايع ويتوج السلطان السادس والثلاثون محمد رشاد خان الخامس فى 27 أبريل 1909م / 1327هـ، بعد فتنة ارتجاعية أحدثها السلطان عبد الحميد بما طبع عليه من استبداد، فسولت له نفسه إحداث هذه الفتنة لتقويض صروح الإدارة الدستورية. ومن بعد السلطان محمد رشاد خان الخامس تبوأ الخلافة فى سنة 1337 هـ/ 1918 م السلطان السابع والثلاثون: محمد السادس، ومن بعده تولى الخلافة سنة 1339هـ/ 1920 م ـ السلطان الثامن والثلاثون: عبد المجيد الثاني، ليتم فى سنة 1341 هـ / 1922 م فصل السلطنة عن الخلافة، إلى أن أعلن مصطفى كمال أتاتورك إلغاء الخلافة فى 26 رجب 1343 هـ / 3 مارس 1924. وكان هذا هو حكم التاريخ، قبل أن يكون قرارًا لأتاتورك؟ وقبل أن أتحدث عن مذابح الأرمن، نعم مذابح لا مذبحة، لأنها تعددت فى صور دامية منذ أبريل 1915 حتى مطلع سنة 1918، قبل انقضاء الخلافة التركية العثمانية فى عام 1924، وأسهم فى تدبيرها وارتكابها مع دولة الخلافة العلية، جمعية الاتحاد والترقي، وبلغ من بشاعتها أن حملت عدة أسماء ـ منها المحرقة الأرمنية والجريمة الكبري، فضلاً عن المذابح الأرمنية، وجمعت كل هذه المسميات بعض التعبير عن تلك الإبادة الجماعية للأرمن، وكان أخفها الترحيل القسرى الذى سيق فيه الأرمن إلى الموت الحتمى فى الطريق الذى دُفعوا قسرًا إليه، بعد الذبح والاغتصاب وكل صور التنكيل، أما المجازر فكانت الأكثر تعددًا وفظاعة، وقدر عدد الضحايا الأرمن بين مليون، ومليون ونصف المليون نسمة، وهذه المجازر جديرة بأن أختم بها هذا الحديث.

ولكننى أتوقف هنا وقفة سريعة، بمناسبة الإشارة إلى سقوط دولة الخلافة العلية على يد مصطفى كمال أتاتورك فى مارس 1924 وظنى أن أسباب انهيار دولة الخلافة العلية التركية العثمانية، التى يريد أردوغان أن يحييها من قبورها، هذه الأسباب يحتاج تقصيها إلى كتاب خاص، يفحص ويدقق ويستقصى الجذور .

ويمكن رد هذا الانهيار وغروب دولة الخلافة العلية، إلى أسباب رئيسية أولها الدموية الأصيلة المتجذرة فى الطبع والنسيج، تلك الدموية التى تعددت صورها فى قتل الإخوة والأبناء فى إسراف لا مثيل له فى الولوغ فى دماء الأصول والفروع والأخوة، وكان لولاية العهد، وتعددها أحيانًا كما حدث فى دولتى الخلافة الأموية والعباسية، نصيب فى دفع هذا الطبع الأصيل إلsى القتل والإسراف فى الدماء سباقًا على السلطة، أو تكريسًا وحماية لها !! حتى فى الأوقات القليلة التى تراجعت فيها عادة قتل الإخوة والأبناء، وأحيانًا الآباء، فإنه قد استبدلت إراقة الدماء ـ بالإلقاء فى السجون، أو تحديد الإقامة فى القصور تحديدًا أشبه بالسجن، حتى صارت هذه القصور أقفاصًا كثيرًا ما أدت إلى إصابة السجين بالعته وبالعلل النفسية والصحية, ومن هذه المثالب وأسباب الانهيار الحكم المطلق والاستبداد اللذان أخذا يضربان فى جسد الدولة وبنيتها وردود أفعال بنيها ما بين الحقد أو الثورة أو الانتقام, ومنها سيادة النظام الإقطاعى ومثالبه وأضراره معروفة, والأخذ إلى جواره بنظام الالتزام فى الأقاليم والمناطق التى لا تخضع لنظام الإقطاع,

وبمقتضى الالتزام تسلم مساحات من أراضى الدولة إلى ملتزمين يتولى كل منهم إدارتها والإشراف عليها, ويلتزم بتسليم الدولة مقدارًا من الأموال فى كل عام متفقًا عليه سلفًا, مما استلزم منح هؤلاء الملتزمين سلطة جباية الخراج بما ترتب على ذلك من استنزاف وظلم الأهالي, ومن المآخذ التى حُسِبتْ على الدولة العلية ـ إلى جوار الحكم المطلق والاستبداد ـ التدخل باسم الأديان فى حقوق الأفراد, مما زرع انتشار التعصب الديني, وشيوع الاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية نتيجة الرشوة والفساد, وشيوع طغيان السلاطين, والمذابح الوحشية التى وقعت بين الطوائف باسم الدين, وضعف السلاطين المتأخرين لأسباب متباينة منها صغر السن, وافتقاد الإمكانات والقدرات والمواهب, ومنها كما رأينا الخلل العقلى والاضطرابات العصبية, فضلاً عن تفشى القروض نتيجة الإسراف والتبذير وانحلال القصور, وإغفال مصالح الأمة, وتعمد إضعاف العرب لحساب الأتراك .

ومما يكثر فيه الحديث، المنطقة الحرجة العائمة، التى تصادف المنقب عن طبيعة العلاقة بين جمعية الاتحاد والترقي، ومصطفى كمال أتاتورك والكماليين، وهى علاقة تصادف الباحث فيها آراء وبيانات متباينة، بين الموالى والرافض, والمادح والقادح, حتى ترى غاية المدح وغاية الذم أيضًا فى جمعية الاتحاد والترقي, فترى من يمتدحها وترى من يصمها بالدكتاتورية, أو من يتهمها بممالأة الصهيونية, وترى مثل ذلك فى شـأن مصطفى كمال أتاتورك وجماعة الكماليين أو تركيا الفتاة التى أنشأها, فهو الغازى البطل أحيانًا, وهو المهادن لأوروبا الصديق للصهيونية أحيانًا, ومن يقول إن الكماليين ذوو جذور يهودية وعلى صلة بالماسونية، مثلما جاء فى كتاب شيخ الإسلام: الأسرار الخفية, وهم فى نظرٍ آخر إصلاحيون, وهم فى نظر ثالث يبذلون وأتاتورك تضحيات لاسترضاء الغرب, ومناهضة الإسلام بعلمانية الدولة, وتحديد عدد المساجد واقتباس قوانين غربية.

وظل ذلك كله جاريًّا تحت جناح دولة الخلافة التركية العثمانية، بطلة كل هذه الأنهار التى سالت من الدماء، ولم تتوقف هذه الممارسات الدامية، مع الأرمن وغير الأرمن، حتى أزيلت دولة الخلافة إلى غير رجعة فى مارس سنة 1924. وقد كان لهذا كله ذيول متعددة لا نزال نلمح آثارها فى تركيا الحديثة القائمة الآن, فى فلسفتها, وفى سياستها, وفى توجهاتها، وفيما يحرك به أردوغان سياستها ومواقفها التى لا تكف عن التوحش على الدول رغبة فى طيها تحت جناحيها، فنراها بممارستها البشعة فى كل من العراق ومع الأكراد، وفى سوريا، واليمن وليبيا التى تمددت أطماعها إليها رغبة فى انتهاب ما يستخرج فيها من البترول، وهى هى ذات الأطماع التى نراها تدفعها إلى النطاق الإقليمى للبحر لكل من قبرص واليونان، طمعًا كعادتها طوال تاريخها، فى السطو على حقول الغاز فى المتوسط وعلى خيرات الغير، واستنزاف موارده كما فعلت طوال احتلالها مصر، حتى أزاحهم الله عنا!!


نقلا عن صحيفة الأهرام

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الخلافة ليست من أصول الحكم في الإسلام (7)

من غير المعقول ألا يعرض الأستاذ العقاد، المعروف بموسوعية إطلاعه وموسوعية كتابته ومؤلفاته، ألا يعرض لهذه القضية البالغة الأهمية التى ازداد الاهتمام بها

الخلافة ليست من أصول الحكم في الإسلام (6)

كتاب الشيخ علي عبدالرازق الإسلام وأصول الحكم لا يزال قبلة معظم الناس، بل صفوة المفكرين والكتاب، رغم مضي نحو قرن من الزمان على صدوره سنة 1925، ورغم كتابات

الخلافة ليست من أصول الحكم في الإسلام ! (5)

ليست هذه أول مرة أتصدى فيها للبحث وتكرار البحث والتصدى لفكرة الخلافة، وإثبات أنها لا تنبع من أصل من أصول الإسلام، وسبب معاودتى الحديث فى هذا الموضوع المهم،

الخلافة ليست من أصول الإسلام! (4)

معالم الحكم الواضحة في المبادئ قطعية الدلالة التي استنها القرآن الحكيم، أن الحكومة حكومة مدنية، بمعنى أن القائم على الأمر ليس ممثلاً لله عز وجل، ولا يملك

التركية العثمانية وأنهار الدماء! (10)

واجهت دولة الخلافة العلية التركية العثمانية، ثورة كبيرة باليونان التى نهضت تطلب استقلالها عن الدولة العلية، وتكبدت الجيوش العثمانية خسائر فادحة في كل المحاولات

الأكثر قراءة