إننى أشعر مع هؤلاء الذين يروجون الأساطير على أنها وحى إلهي، أن العالم مجموعة من الأشباح والعفاريت والشياطين يغيب فيها الواقع الحقيقى والظواهر الكونية البهية التى خلقها مبدع واحد أحد، وتتراجع فيه آيات الله الكونية المطردة لصالح عقائد تقرن كل فعل وكل ظاهرة كونية بالجن والشياطين، عالم يغيب فيه النور بسبب عقول تنظر بعدسات أسطورية لكل شيء.
إنه عالم من الهلاوس والوسوسات يصنعه المرضى بغياب العقل النقدي، والذين يقتاتون من السيطرة على العقل بالأوهام، فيجعلون بينهم وبين الوحى المقدس النقى عتبات من الروايات الخرافية، ويجعلون بينهم وبين الكون المنير عتبات من عوالم الظلام اللامرئية! حيث تغيب علوم الفيزياء والرياضيات والكيمياء لصالح عوالم السحر والشعوذة والخيمياء، هذه العوالم التى تسللت أفكارها إلى الدين الخالص تحت قناع من الروايات الضعيفة والمزيفة والكذوبة التى ليس لها أصل فى القرآن والسنة المتواترة.
ومع غياب العقل النقدى والوحى الخالص، تسود ظواهر التخلف؛ حيث يفتى ويختلف الجميع فى عالم الغيب، ويشغلون عقولهم بقضايا بعيدة عن الواقع وعن حدودهم المعرفية، وهم أيضا يستشهدون بأحاديث منسوبة للنبى صلى الله عليه وسلم، بعضها ضعيف السند، وبعضها معارض للقرآن الكريم، وربما يكون بعضها صحيحا لكنه لا يصل إلى شرط المتواتر الذى يُؤخذ به فى العقائد.
وحتى لا يكون كلامى هذا كلاما مرسلا دون سلطان مبين، فسوف أعطى أمثلة عينية من كتبهم ذائعة الصيت مع أرقام الأجزاء والصفحات، وأترك الحكم للذين يقرأون ويصبرون على القراءة، أما أولئك الذين يقدسون أقوال أصحاب القداسة فنقول لهم: راجعوا أنفسكم على الوحى الإلهى الثابت ولا تكونوا مثل القطيع فلن ينفعكم أحد من الذين تقدسونهم أمام الله: «إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ. وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ» «سورة البقرة:166، 167».
وهذه الآيات الكريمة - بصرف النظر عن كونها مختصة بالكافرين فقط أم تشمل كل من أخطأ فى عقائده وتصوراته نتيجة التقليد- فإنها تدل دلالة صريحة على رفض القرآن الكريم حجة كل مَن يحتج فى تبرير أفكاره بمبدأ الاتباع الأعمى لبعض الأشخاص الذين يرون أنهم فى مكانة مقدسة.
وربما يمكن القول انها تطال - من هذه الزاوية - كل أتباع الفرق والمذاهب الذين يقدسون فرقهم الدينية وأئمتها، ويتبعون منظومات عقائدية وضعها بشر وفق طريقة فهمهم الخاصة للوحي.
والمشكلة أن الأتباع لا يسألون أنفسهم: هل العقائد تُؤخذ من الرجال أم من الوحى نفسه؟ والمشكلة أيضا أن لدينا قطاعات واسعة تسير وراء كل ما يُروى فى صفحات الكتب والخطب الانشائية.
ونواصل ضرب الأمثلة من الكتاب الأشهر «إحياء علوم الدين» للغزالى الأشعري، حيث يورد حديثا :«إن للوضوء شيطاناً يقال له الولهان فاستعيذوا بالله منه»، وهذا الحديث أخرجه – كما يقول الحافظ العراقي- ابن ماجه والترمذى من حديث أبى بن كعب وقال: غريب وليس إسناده بالقوى عند أهل الحديث. ومع ذلك يورده الغزالى فى أمر عقائدى يتعلق بعبادة من أروع العبادات وهى الوضوء كشرط للصلاة. ولا أدرى هل يقصدون أنه شيطان واحد يلازم الجميع فى الوقت نفسه عند الوضوء، أم يقصدون عدة شياطين تحمل الاسم نفسه والوظيفة ويبلغ عددها ذات عدد المتوضئين كلهم؟!
كما يورد الغزالى الأشعرى حديثا ضعيفا عن أنس عن الرسول عليه الصلاة والسلام:«إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم»، والخَطْمُ هو الأَنف، أو مقدَّمُهُ. والخَطْمُ المنقارُ. والحديث أخرجه ابن أبى الدنيا فى كتاب «مكايد الشيطان» وأبو يعلى الموصلى وابن عدى فى «الكامل» وضعفه. إنها رواية أسطورية أخرى تصور الشيطان وهو يضع أنفه على قلب الإنسان!
كما يورد الغزالى عن ابن وضاح حديثا نسبه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام :«إذا بلغ الرجل أربعين سنة ولم يتب مسح الشيطان وجهه بيده»، وهذا الحديث المزعوم ليس له أصل كما يقول الحافظ العراقى«ج 3/ ص 28- 29».
ويستمر الغزالى فى كتابه الذائع «إحياء علوم الدين» «ج 3/ ص 34» فى سرد أدلته الخرافية التى ليس لها أصل إلا أقوال بعض الرجال دون أى سند من الوحى الثابت، «قال ثابت البناني: لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال إبليس لشياطينه: لقد حدث أمر فانظروا ما هو. فانطلقوا حتى أعيوا، ثم جاءوا، وقالوا: ما ندري. قال: أنا آتيكم بالخبر. فذهب ثم جاء وقال: قد بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم. قال: فجعل يرسل شياطينه إلى أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم فينصرفون خائبين، ويقولون: ما صحبنا قوماً قط مثل هؤلاء نصيب منهم ثم يقومون إلى صلاتهم فيمحى ذلك. فقال لهم إبليس:« رويداً بهم عسى الله أن يفتح لهم الدنيا فنصيب منهم حاجتنا ». وحديث ثابت أخرجه ابن أبى الدنيا فى «مكايد الشيطان» هكذا مرسلا. فهو حديث ضعيف على أقل تقدير. ومع ذلك يتجرؤون على أمر غيبى دون سند من قرآن وسنة متواترة، ثم يزعمون بعد ذلك أنهم لا يأخذون فى مذهبهم إلا بالأحاديث المتواترة فى العقائد!
وتستمر الخرافات، حيث يورد الغزالى حديث أبى أمامة :«إن إبليس لما نزل إلى الأرض قال: يا رب أنزلتنى إلى الأرض وجعلتنى رجيماً، فاجعل لى بيتاً. قال: الحمام». الحديث أخرجه الطبرانى فى الكبير، وإسناده ضعيف جدا، ورواه بنحوه من حديث ابن عباس بإسناد ضعيف أيضا.
انظر كيف ينقلون وينسبون حوارات غيبية إلى الله سبحانه وتعالى، استنادا إلى مرويات ضعيفة السند أو لا أصل لها عن الرسول عليه الصلاة والسلام؟! ولا أدرى هل هم على وعى أنهم بذلك يتجرؤون على الرسول عليه الصلاة والسلام وعلى دين الله تعالى؟ إن الدين لا يُؤخذ فى عقائده إلا باليقينى الثبوت. هذا ما أعرفه، لكن بعض أصحاب القداسة لهم رأى آخر.
إنها روايات خرافية تتسلل إلى الدين من خلال بعض علمائه، ومن أسف تشكل عقول العوام بل وكثيرا من عقول النخبة الذين يسيرون طبقا لمبدأ الاتباع والتقديس، وبهذا يتراجع الدين الخالص وراء سحب وضباب من الروايات والعقائد الأسطورية.
نقلا عن صحيفة الأهرام