Close ad
4-12-2020 | 15:37

تحتار فيها: هل هى ملحمة بطولية أم مأساة أم ملهاة أم مهزلة؟ الحياة فيها من البطولة قدر ما فيها من المساخر، والنهايات السعيدة والمفجعة؛ فيها من قصص الحب الوردية ما لا يضاهيه إلا ازدحامها بمشاهد الرعب وأفلام الجرائم الكبيرة والتافهة؛ فيها من التشويق والإثارة ما لا يدانيه إلا ما تنطوى عليه عروضها اليومية أحيانا من ملل وضجر رهيب.

كل هذا وأكثر تجده فى دراما الحياة. وما حكاياتنا وروايات كتابنا، وشلال المسرحيات والأفلام التى أنتجتها وتنتجها البشرية منذ القدم حتى اليوم وإلى آجال لا نسميها؛ ما كل هذه الدراما التى نقلناها أو استلهمناها أو اخترعناها نحن البشر إلا انعكاسات عابرة مارقة كالبرق لوجه الحياة الفاتن والقبيح معا فى مرايا الفن والخيال.

وقديما قال كتاب المسرح والدراما الشعرية إن أعمالهم الإبداعية ما هى إلا مرآة يمسكها الكاتب لمجتمعه، بل للوجود الإنسانى كله، ليرى فيها العصر أخطاءه ومثالبه، ويتأمل الإنسان جماله وقبحه. ومرت قرون منذ زمن شكسبير ومن قبله سوفوكليس، ونشأت بعد الدراما الشعرية القصة والرواية، ثم الفيلم والمسلسل التليفزيوني، ومازلنا نرى انعكاس وجهنا فى مرايا الفن.

ولكن لأن تلك الانعكاسة، بالطبيعة وبديهيا، تأتى مجزوءة، محدودة بالامتداد الزمنى للعمل الدرامى أو عدد صفحات العمل الروائى أو القصصي، كما تُحَجِّمها أيضا محدودية العقل المبدع، ومنظور رؤيته للحياة، ومزاجه الفرديّ، والاختلاف الذى فطرنا الله عليه، كل هذا يجعل أعمالنا الدرامية والأدبية لا تعكس من وجه الحياة المركب إلا لمحة، يفرض عليها مزاج صانع العمل ومتلقيه، ومحدودية وتباين الرؤي، واختلاف الأفراد والمجتمعات والأزمان، أن ينفرد كل عمل درامى بسِمة واحدة من سمات دراما الحياة المعقدة، فيأتى ذلك العمل إما قصة حب رومانسية، أو ملحمة تخلد بطولات الفرسان وانتصارات الشعوب والأوطان أو كوميديا لاهية ترى الوجه المضحك للحياة. قد تكون الضحكة صافية، أو مريرة يأتى فى ذيلها الدمع الساخر أو الحزين، أو قد تعكس المرآة الوجه المرعب للحياة، كما فى بعض حواديت الجدات عن الذئب وصغار الماعز الذين تركتهم الأم، أو فى أفلام الرعب وتقارير الشاشات عن أحداث اليوم.

وأحيانا تكون مرآة المبدع مقعرة أو محدبة أو كلتيهما معا، فيرتسم وجه الحياة، كما يرى الأطفال وجوههم فى مرايا الملاهى، سيرياليا عجائبيا لا معقولا. والفرق بين الحياة كما أرادها مبدعها العظيم جل جلاله لحكمة رأتها مشيئته، وبين انعكاسات وجهها الانشطارية فى مرايانا الإنسانية، أن دراما الوجود غنية ومعقدة وقابلة للارتسام فى مرايانا بوجوه شتى، حسب رؤانا المتعددة المحدودة المجزوءة لها.

فكل أنواع الدراما وأشكالها تحتشد وتندمج فى دراما الوجود: الحب والجريمة، البطولة والمسخرة، الضحكة والدمعة وصرخة الفزع، المأساة والملهاة والملحمة، الفلسفة العميقة والتسلية السطحية الفارغة.

خلاصة القول إنها تتعدد بتعدد رؤانا لها؛ لكنها واحدة، ومعناها الخبيء والبادى معاً لا يدركه كله إلا ذو الجلال وحده. وتباين وجه الحياة فى مرايانا: جمالاً وقبحاً؛ سطحية وعمقا؛ وردية وسوادا؛ جدا وهزلا.. كل هذا يعود لتبايننا نحن وتفاوتنا من حيث الذكاء والفهم، أو الجدية أو انعدامها. وقد قيل من قبل: الجمال فى عين الرائي, كذلك القبح, والخير والشر والحزن والبهجة.. فنحن نرى الحياة من منظورنا الفردي؛ فإذا كانت نظاراتنا سوداء رأيناها سوداء، ورسمناها فى أعمالنا الدرامية باللون الأسود.

كذلك تتدخل فى ملامح وجه الوجود المرتسم فى مرايانا الإبداعية طبيعة المتلقى وما يتطلبه الجمهور ويريد أن يراه. فلا تنسَ أن الفن، خاصة الدراما، سلعة كما هو رؤية؛ بل سلعة قبل أن يكون رؤية.. فبين الراسم والمرسوم يطل وجه التاجر والمستهلك والرزق وأكل العيش والكساء والمسكن.. وكل هذا جزء حاكم متحكم من دراما الحياة.

* نقلًا عن صحيفة الأهرام

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
المغترب.. وشقشقات العش

فى كتابه الصغير الجميل, رأيتُ رام الله، يقول مريد البرغوثى، الراحل الفلسطينى الكبير المغترب، الذى أخيرا وجد وطنه السمائى النهائى، بعد شتات فى البلاد وطوا

ابنة الحظ (2)

يبدأ النصف الأول من رواية إيزابيل الليندى ابنة الحظ بحلم الحب وينتهى بحلم الذهب. وفى النصف الثانى نشهد الإفاقة التدريجية من الحلمين معا- ذكرى الحب الأول

ابنة الحظ

الكاتبة الشيلية إيزابيل الليندى يقال عنها - ضمن ما يقال - إنها أكثر من كتب بالإسبانية رواجاً بين القراء. وبصرف النظر عن مدى دقة هذه المقولة، فإن روايات

رعشات الجنوب «3»

ختمنا المقالة السابقة عن رعشات الجنوب للروائى السودانى أمير تاج السر، والتى استغرقت منا حتى الآن مقالتين وهذه الثالثة، بهذه الجملة: مازال لدينا الكثير

طبيب أرياف

طبيب أرياف

الشتاء الثاني

الشتاء الثاني

الأكثر قراءة