اتسع المدى الأسطورى الذى وصلت إليه تيارات من التراث يقدسها البعض، فى التجرؤ على الحديث عن عوالم لا نراها وليست تحت تجربتنا، واستندوا فى ذلك إلى أخبار وروايات مرسلة ومكذوبة، وأحاديث ضعيفة النسبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، أو مسندة كذبا إليه صلى الله عليه وسلم. ثم يدعون أنهم لا يأخذون إلا بالمتواتر ويخدعون العوام، فى ثقافة لا ينتصر فيها إلا أصحاب الصوت العالى بصحبة جوقة من بعض الجماهير المغيبة.
ونعطى بعض الأمثلة على ذلك مما يوردونه فى كتبهم المنتشرة فى عصرنا عن موضوع سلسلة هذه المقالات، حيث نجد فى كتب الغزالى الأشعرى (إحياء علوم الدين)، والشبلى الحنفى (آكام المرجان)، والسيوطى الأشعرى (لقط المرجان)، وهم عادة يصنفون هذه الكتب فى كتب العقائد، أقول نجد فى هذه الكتب مجموعة ضخمة من الأحاديث الموضوعة والضعيفة والأقوال المأثورة التى ليس لها سند من الوحى الإلهى الذى يملك الله وحده فيه مفاتيح الغيب.
قال الشبلى: «قال أبو الْقاسم السّهيْلي: الْجنّ ثلاثة أصْناف كما جاء فى الحديث، صنف على صور الْحيّات، وصنف على صور كلاب سود، وصنف ريح طيارة، أو قال: هفافة ذو أجْنحة. وزاد بعض الرواة: صنف يحلون ويظعنون وهم السعالي. قال: ولعلّ هذا الصّنْف هو الّذى لا يأْكل ولا يشرب إن صحّ أن الْجنّ لا تأْكل ولا تشرب، يعْنى الرّيح الطيارة».
ثم يتابع الشبلى (آكام المرجان، ص 38) مستشهدا بالأساطير، ومن ورائه السيوطى الأشعرى (لقط المرجان، ص 21)، ومن قبلهم الغزالى الأشعرى فى كتابه (إحياء علوم الدين، ج3، ص36)، مدعمين تلك الأساطير بحديث ضعيف منسوب إلى النبى صلى الله عليه وسلم، رواه ابْن أبى الدّنْيا فى كتاب (مكائد الشّيْطان)، والحكيم الترمذى فى (نوادر الأصول)، أبو الشيخ فى العظمة، وابن مردويه، فقال: حدثنا الْحسيْن بْن عليّ بن الْأسود الْعجليّ، حدثنا أبو شامة، حدثنا يزيد بن سنان أبو فرْوة الرهاوي، حدثنا أبو منيب الْحمصي، عن يحيى بن كثير، عن أبى سلمة ابْن عبد الرّحْمن، عن أبى الدّرْداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليْه وسلم :«خلق الله تعالى الْجنّ ثلاثة أصْناف: صنف حيات وعقارب وخشاش الأرْض، وصنف كالرّيح فى الْهوي، وصنف عليْهم الْحساب والْعقاب، وخلق الله تعالى الْإنْس ثلاثة أصْناف: صنف كالْبهائم لهم قلوب لا يعقلون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام، وصنف أجسادهم أجساد بنى آدم وأرواحهم أرواح الشياطين، وصنف فى ظل الله تعالى يوم لا ظل إلا ظله».
وسند هذا الحديث ضعيف جدا، لأن أبا منيب الحمصى مجهول. والْحسيْن ابْن عليّ بن الْأسود الْعجليّ ضعيف يسرق الحديث. ويزيد بن سفْيان أبو فرْوة الرهاوي، ضعيف.
ومع ذلك يستدلون بهذا الحديث فى كتب العقائد وعلوم الدين. والسؤال المنطقي: كيف يستدلون به فى أمر عقائدي؟! وحتى لو صح كيف يستدلون بحديث لم يبلغ درجة التواتر فى أمر عقائدي!
وليسمح لى القارئ الكريم بأن أشغله ببعض المسائل العلمية الفنية التى ليس موضعها المقالات، ولكن حتى يعلم الجميع أننا لا نقول شيئا عبثا، وإنما عن دراسة علمية، وهذا دأبنا فى كل المؤلفات والتحقيقات التى أصدرناها عبر أربعة عقود عن دور نشر كبري، والرسائل العلمية التى أشرفنا عليها، والأبحاث العلمية المحكمة التى ألفناها أو أشرفنا عليها، ومنها مؤلفاتنا فى علوم الحديث وتحقيقاتنا لكتب التراث، وتم تدريسها فى العديد من جامعات العالم الإسلامى والعربي.
هذا الحديث الذى يستدلون به: أخرجه ابن أبى الدنيا فى «الهواتف» (156)، و«مكائد الشيطان» (1)، وأبو الليث السمرقندى فى «بحر العلوم» (1/ 584) من طريق حازم بن يحيى الحلواني، وأبو الشيخ فى «العظمة» (5/ 1639) (1081) من طريق أبى جعفر محمد بن العباس الأخرم. وأربعتهم: [أبو يعلي، وابن أبى الدنيا، وحازم بن يحيى الحلواني، وأبو جعفر محمد بن العباس الأخرم] عن حسين بن على بن الأسود، به. وأخرجه ابن حبان فى «المجروحين» (2/ 458) من طريق محمد بن الحسين الكردى البصري. وأبو الشيخ فى «العظمة» (5/ 1639) (1081) وفى «طبقات المحدثين بأصبهان» (2/ 169) (182) من طريق موسى بن عبد الرحمن بن مهدي. وثلاثتهم: [حسين بن على بن الأسود، ومحمد بن الحسين الكردى البصري، وموسى بن عبد الرحمن بن مهدي] عن أبى أسامة، به. وقد ذكره الحكيم الترمذى فى «نوادر الأصول» (1/ 154) (228) عن أبى أسامة، به - هكذا معلقاً -. وأخرجه ابن أبى حاتم، وابن مردويه كما فى «الدر المنثور» - تحقيق د. التركى - (6/ 682). وأخرجه أبو بكر الذكوانى فى «الآمالي» (94/ 2) والحديث ضعّفه أيضا الألبانيّ فى «السلسلة الضعيفة» (8/ 40) (3549). (تخريج أحاديث وآثار حياة الحيوان للدميرى من التاء إلى الجيم، ص: 893).
وأقول نقلا، عن مراجع علوم الحديث والجرح والتعديل، إن الحديث مداره على يزيد بن سنان، وقال ابن حبان عنه: «وكان ممن يخطئ كثيراً، حتى يروى عن الثقات مالا يشبه حديث الأثبات، لا يعجبنى الاحتجاج بخبره إذا وافق الثقات، فكيف إذا انفرد بالمعضلات؟!». وقال ابن عدي: «له أحاديث مسروقة عن الشيوخ»، وقال ابن معين: «ليس حديثه بشيء». وفى رواية: ليس بشيء. وقال البخارى عنه: «صدوق، مقارب الحديث، إلا أن ابنه محمداً يروى عن مناكير»، ولاحظ هنا أن حكم البخارى عليه بخلاف حكم باقى علماء الجرح والتعديل. وقال أبو حاتم: «محله الصدق، وكان الغالب عليه الغفلة، يكتب حديثه، ولا يحتج به». وضعّفه: أحمد بن حنبل، وابن المديني، وابن معين، والنسائى وزاد: متروك الحديث، والبسوي، والدارقطني. وفى رواية له وللنسائي: ليس بثقة. وقال أبو داود: ليس بشيء، وابنه ليس بشيء. وقال أبو زرعة: ليس بقوى الحديث. وقال البسوى فى موضع: هو ضعيف، وابنه ضعيف، أضعف من الأب.. قال الذهبى فى «الكاشف»: ضعفه أحمد. وقال فى «المغني»: مشهور، ضعفه أحمد، وابن المديني. وقال ابن حجر فى «تقريب التهذيب»: ضعيف. أما أبو منيبٍ الحمْصى فهو مجْهولٌ. [«التاريخ الكبير» (8 /كتاب الكنى ص70)، «الجرح والتعديل» (9/ 440)، «المقتنى فى سرد الكنى» (2/ 100)]. كما توجد نكارة فى المتن، حيث قصر التكليف والجزاء على صنفٍ واحدٍ من أصناف الجن. (تخريج أحاديث وآثار حياة الحيوان للدميرى من التاء إلى الجيم) (ص 890 - 894).
جدير بالذكر أن هذا الحديث استدل به الغزالى الأشعرى من قبل فى كتابه الذائع الصيت (إحياء علوم الدين)، مع العلم أن من المستقر عند علماء الحديث والتخريج، ومنهم الحافظ العراقي، أن هذا الكتاب ملئ بالأحاديث الضعيفة والموضوعة، ومع ذلك يعدونه من الكتب المرجعية فى الخطاب الدينى التقليدي! بل يدعى بعض أنصار الخطاب الدينى التقليدى قداسة كتاب الإحياء حيث يقول: «لو اجتمع علماء المسلمين كلهم ما استطاعوا أن يصنفوا مثله»! (انظر: تخريج أحاديث إحياء علوم الدين ج1/ ص 5).
أترك الحكم للذين يقرأون ويصبرون على القراءة.
نقلا عن صحيفة الأهرام