"لا يداخلك الغرور بسبب الملك ولا تتعال لأنك رجل عالم".
"إذا دعيت إلى حضرة الكبير فلا تجلس إلا إذا دعاك وإذا دعيت إلى الطعام فكل ما هو أمامك ولا تنظر إلى ما يأكله غيرك.. وأضحك عندما يضحك فهذا ما يبهج قلبه".
مجرد مثالين من مصر القديمة، مصر الحضارة والتحضر على مر التاريخ، فـأدب الحكم والنصائح ظهر منذ الدولة القديمة، وقد كتبه الحكماء في أغلب الأحوال على لسان أب ينصح ابنه، وأشهر هذه البرديات تلك التي تنسب للوزير "بتاح حتب" الذي عاصر الملك "أسيسي" من الأسرة الخامسة، وخلد اسمه في الأدب المصري لما تركه من تعاليم راقية كان يهذب بها ابنه ويرقى بأفعاله.
فيبدأ الوزير نصائحه بتحذير ابنه من الغرور بسبب زيادة علمه، وينبهه إلى ضرورة اتباع الحق، فقيمته خالدة.. وتتوالى النصائح فنراه يدعوه إلى التوسط في اختيار وقت صمته وكلامه، وفي معاملته لنفسه ومطالب بدنه.
ولم تستثن النصائح سبل التعامل مع رئيسه أومرؤسه، وكيف يتصرف عندما يدعى لمائدة، وضرورة احترام حرمة البيت الذي يسمح له بدخوله، وكذلك تحذيره من الطمع فهو مرض عضال لا دواء له.
لم يقف الأمر عند الحكماء فحسب، بل امتد أن ينصح الملوك أولادهم مثل نصائح الملك "امنمحات الأول" لولده "سنوسرت الأول" فيطلب من ابنه أن يهدئ من روع الباكي ولا يظلم الأرملة: "قرب إليك أي إنسان بسبب عمل يديه.. احم الحدود وشيد الحصون لأن الجيوش تنفع سيدها".
وامتد الأمر طوال التاريخ المصري القديم، فنجد نصوص "الأهرام" في الدولة القديمة وكتاب الموتى من الدولة الحديثة الذي يجمع في صفحاته أناشيد وتسابيح وخطابات ملكية ومعاهدات وقصصًا وحكمًا تعليمية، وُضعت جميعها لتهذيب الشبان والأمراء.
إلى جانب ما ورد من نصائح "آني" من الدولة الحديثة وتحث فيها على اتباع السلوك القويم وحسن معاملة الناس والرفق بالحيوان.
كما تحث على الزواج وتدعو للقناعة والثقة بالله، وتحذر من شرب الخمر، وتدعو الابن إلى أن يحب والدته ويحسن معاملتها "فلا تجعلها ترفع يديها إلى الله لئلا يستمع إلى شكواها، وعامل زوجتك بالحسنى، فيا لها من سعادة عندما تضم يدك إلى يدها".
كل هذا وأكثر، منه يوضح أن الحضارة المصرية القديمة اهتمت بالإنسانيات قدر اهتمامها بالعمارة والفنون، وبالأخص الاهتمام بالأسرة والأطفال، وتنشئتهم تنشئة سليمة، لضمان صلاح المجتمع.
كما كان الأطفال خلال سنواتهم الأولى يمارسون طفولة طليقة ولديهم ألعاب عدة، فمن يزر المتحف المصري يتسن له أن يشاهد لعبًا على هيئة التماسيح وأغنامًا وأبقارًا وقوارب وتوابيت ومومياوات والنحلة الدوارة وكرات من الجلد أو النسيج محشوة بالقش وكرات من الخشب.
وكان المصري حريصًا على تعليم أطفاله منذ نعومة أظفارهم قواعد السلوك وآداب التعامل، فأحد الآباء ينصح ابنه: "إذا أردت إصلاحًا فأحسن اختيار ألفاظك فالخطاب الجيد يملأ قلوب الناس بالسعادة فيستجيبون لقولك، وإذا طهر الصديق قلبه من الشرور حسنت أعماله وانتفع بها أصدقاؤه، وأصبح في مأمن من فقدهم.. فحذارٍ من فقد صداقة الأصدقاء"..(الأسرة ١٩).
لقد حرص المصري القديم أيضًا على إرسال أولاده إلى المدرسة، ليلقنه المعلم مبادئ القراءة والكتابة والحساب، وحينما يبلغ الثانية عشرة يرسله إلى ديوان الحكومة ويعهد به إلى كاتب من الكتاب ليعلمه ويتتلمذ على يده ليصير كاتبًا ذا علم ومعرفة.
فكان الطالب يرافق أستاذه لينهل منه العلم وينقل الخطابات والوثائق والحسابات، كما كان الطالب يعاقب إذا أهمل واجبه، ولكنهم مع ذلك يمرحون ويمارسون ألعابًا عدة.. هذه التنشئة خلقت من المصري القديم مجتمعًا سويًا في المجمل تشهد حضارته عليه.
مما لاشك فيه كأي مجتمع، هناك الخير والشر، الفاسد الطالح والصالح، وكان العقاب والجزاء من جنس العمل، وكانت عقيدة المصري القديم تحث دائمًا على الخير والابتعاد عن الشر، لآن الجزاء في الأخرة هو الأهم.
تتوارث العادات والأخلاق، ليأتي العصر ليكون القابض عليها كالقابض على قطعة من الجمر، فحينما غاب دور الأم والأب والثواب والعقاب تفشت قلة الأخلاق وتكاد تكون منعدمة.. وانشغال الآباء في كسب الرزق وترك التربية للخادمات أظهر السوء الذي يشتكي منه البعض ثم ضرب كفا على كف ويحاول أن يفر بأولاده إلى بلد آخر لا يزال يتسم ببعض الخلق.
لقد افتقدنا الحوار، النصيحة، الحنان، ومن ثم السلوك والإنسانية حتى مع الحيوان والأطفال، فالتنمر يظهر فور حدوث أي خطأ دون تقدير لحجمه وفصله عن الجرم، وأصبع التنمر سمة الحوار، في حين نحتاج لإسعاف عاجل وأقسام طوارئ لإعادة إحياء السلوك الحسن والإنسانية.
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
صلاح أمرك للأخلاق مرجعه .. فقوم النفس بالأخلاق تستقم
إذا أصيب القوم في أخلاقهم .. فأقم عليهم مأتمًا وعويلًا