حرب أكتوبر المجيدة لم تكن فقط اشتباكات وخططًا ومواجهات وعبقرية عسكرية مصرية.. حرب أكتوبر كانت أيضًا عمليات بطولية تفوق الخيال .. بطولات ستظل مضيئة للأبد تنير لنا طريق الانتماء بالتضحية.
موضوعات مقترحة
البطولات المصرية في الحرب شاهدة ليس فقط علي نصر مبين وتحرير الأرض ، بل أيضا علي الابتكار والعبقرية ففي رحلة أقل ما توصف به أنها "رحلة إلي جهنم"،، استطاع بطل مصري السير 70 كيلو مترًا خلف خطوط العدو ومعه عدد من الجمال تحمل مؤنًا وذخيرة لكتيبة صاعقة في رأس سدر.
البطل المصري اللواء نبيل أبوالنجا الذي حمل روحه علي يديه وقاد المهمة المستحيلة بنجاح ووصل بالجمال عندما تعذر الوصول بالطائرات. المهمة المستحيلة كانت الوصول إلي رجال الصاعقة خلف خطوط العدو لإمدادهم بالمؤن.
خطورتها الحقيقية أن الحرب كانت علي أشدها أيام 10 و11 و12 أكتوبر وبدون غطاء.. فمن هو هذا البطل؟ وكيف استطاع إنجاز مهمته المستحيلة بنجاح ليسجل اسمه بحروف من نور ونار في سجل العظماء أبطال أكتوبر؟
قائد الرحلة الي جهنم كما وصفها وسجلها في كتاب ، يتمني تحويله لعمل درامي يرصد البطولات ، متحدثا الي بوابة الاهرام في الذكري 47 علي نصر اكتوبر ، اللواء نبيل أبوالنجا البطل الذي قاد اول وحدة قتالية للعمليات الخاصة ٩٩٩، وأحد مؤسسيها، وشارك في تأسيس "سلاح المغاوير "الصاعقة الكويتية.
يقول ابو النجا: "التحقت بالصاعقة في بداية شهر ديسمبر عام 1967 بعد التخرج فى الكلية الحربية برتبة ملازم والتحقت بإحدي الكتائب بأنشاص وكانت قادمة توًا من رأس العين ببورسعيد، وهي أول وحدة مصرية تقوم بعمليات خاصة ضد قوات العدو شرق القناة بعد النكسة، ويضيف اللواء نبيل وجدت نفسي وسط الرجال الذين يحملون علي صدورهم أنواط الشجاعة ويتحدثون عن عملية رأس العش بفخر وكيف دمروا قوات العدو التي حاولت التقدم إلي مدينة بورفؤاد وشعرت بالفخر وأنا أنظر لهؤلاء الرجال وأنواط الشجاعة تتدلي علي صدورهم في الكتيبة.
كان الملازم نبيل أبوالنجا لا يفارق الملازم أول فتحي عبدالله من أبطال معركة رأس العش ليل نهار ويستمع له في إعجاب وفخر ويحلم باليوم الذي سيكلف هو أيضًا بعمليات مشابهة واجتهد جدًا في التدريبات وأظهر براعة غير عادية وأفكارًا مبتكرة للخروج من المواقف الصعبة، بعدها انتقل الضابط أبوالنجا إلي إحدي مجموعات الصاعقة بقيادة العقيد أ. ح السيد الشرقاوي الذي بهرت شخصيته ووطنيته وعلمه الضابط الشاب وكان الشرقاوي القدوة والمثل الأعلي في كل شيء وعين أبوالنجا رئيسا لإحدي أفرع الاستطلاع بداية من شهر يناير عام 1973 وأصبح العمل يجري علي قدم وساق ويبذل الجميع كل جهد ممكن في التدريب استعدادًا لمعركة الكرامة.
ويضيف: من أبرز سمات هذه الفترة التدريب الراقي المتقدم باستخدام الذخيرة الحية وتم إنشاء وحدة تدريب بوحدات الصاعقة التي كانت مكلفة بمهمة عمل الكمائن للعدو في الأراضي الجبلية، ويضيف تلقت الكتيبة مهمة قتالية لتنفيذ الكمائن في المضائق الجبلية ضد قوات العدو المدرعة واستمر العمل ليل نهار في مناطق وعرة للغاية وفي ظروف شاقة باستخدام الذخيرة الحية وعلي أهداف مشابهة تماما للمعركة المقبلة وقد كان القادة علي مختلف المستويات يفكرون في كل شيء وفي أدق التفاصيل. وكان مخططًا أن يدفع بالكتيبة خلف جبل عتاقة بئر عديب المشرف علي مدينة السويس علي أن يتم تجميع الكتيبة ليل الخامس من أكتوبر 1973.
في تمام الساعة 1405 الثانية وخمس دقائق بعد ظهر 6أكتوبر شعر الجميع بأن بركانا من الحمم يصب علي الضفة الشرقية للقناة والطائرات المصرية تدك المواقع الإسرائيلية.
وعلي الفور أخذ قائد الكتيبة مهمته وكانت علي النحو التالي في تمام الساعة 1610 الرابعة وعشر دقائق عصرا سيهبط عدد من طائرات الهيلكوبتر لتحمل الكتيبة لإبرارها توصيلها جوا إلي مضيق رأس سدر شرق القناة وبعمق من 50إلي 70 كيلو مترًا تحت ستر مظلة جوية من نفس التوقيت وتقوم الكتيبة بمجرد وصولها للمنطقة الجبلية للمضيق بتنظيم الكمائن من مدخل المضيق المواجه لرأس الطرف المواجهة لمنطقة صدر الحيطان وذلك لتدمير اللواء المدرع الإسرائيلي ومنعه من التقدم بأي ثمن لافساد مخطط دفع العدو لهذا اللواء المدرع عبر مضيق سدر لتوجيه ضربة إجهاض للجانب الأيمن للجيش الثالث الميداني.
وكان من المخطط أيضا بقاء الكتيبة في مواقعها علي المضيق عقب تنفيذ المهمة وتدمير عناصر اللواء المدرع المعادي حتي يتم الاتصال بها عن طريق عناصر من أحد ألوية المشاة المصرية الذي يعمل علي الجانب الأيمن للجيش الثالث الميداني.
وأثناء تتبع أخبار العبور العظيم من الراديو هبط عدد من الطائرات الهيلكوبتر لحمل قوات الصاعقة في المكان والتوقيت المحددين وتعالت الهتافات وبلغت الروح المعنوية عنان السماء،وأقلعت الطائرات الهيلكوبتر التي تحمل قوات الصاعقة لتنفيذ المهمة واستدعي العقيد السيد الشرقاوي في منطقة بئر عديب المتاخمة لجبل عتاقة وأصدر تعليمات بضرورة تحقيق الاتصال برجال الكتيبة الذين وصلوا بنجاح لمضيق سدر والعمل علي إمدادهم بالمؤن والذخيرة وذلك عن طريق طائرتي هيلكوبتر جهزتا لهذا الغرض وكل طائرة تحمل عشرة رجال وطبيبا والموعد المحدد لإقلاع الطائرتين آخر ضوء يوم الأحد السابع من أكتوبر.
كان موقع كتيبة الصاعقة التي تم إنزالها بالطائرات الهيلكوبتر خلف الخطوط علي مسافة ٨٠ كيلومتر في عمق العدو بمنطقة رأس سدر للقرب من خط المضايق لعمل كمائن لدبابات العدو التي ستتقدم عقب عبور قواتنا وتندفع شرقا من خلال المضيق الي منطقة عيون موسي لتدمير قوات المشاة المصرية التي عبرت القناة وليس معها إلا اسلحة خفيفة، وكانت مهمتنا إمدادهم بالمؤن اللازمة والذخيرة .
كانت العملية مستحيلة بالفعل لأنها تتم في عمق العدو لكن لم يكن هناك مفر من إتمامها، وقتها اقترح العقيد أ. ح نبيل شكري مصطفي دفع دورية بالجمال يتراوح عددها بين 15 : 20 جملاًَ محملة بالمؤن والذخيرة بعد تعثر استخدام الطائرات الهيلكوبتر لتواصل هجمات العدو،وتم وضع الخطة بحيث تتوغل الجمال في عمق العدو لمسافة ٧٠ كيلو مترًا للوصول إلي مواقع الرجال.
مهمة فريق الصاعقة بمشاركة أبو النجا المستحيلة نظرياً كانت القيام ومعه أربعة رجال من سلاح الحدود الهجانة وقبائل منطقة سدر بتوصيل المؤن والذخيرة إلي أبطال الصاعقة خلف خطوط العدو في رأس سدر وتم تجهيز 20 جملاً لهذه المهمة وتحميلها بالمؤن بواسطة عناصر الشئون الإدارية للجيش الثالث وبعض أفراد الهجانة والبدو أصحاب الخبرة في إظهار الجمال كأنها تحمل أشياء عادية.
وتابع: "تم دعمنا بدليل من أبناء سيناء الشرفاء كان عمره وقتها يتجاوز الـ85 عامًا، و3 رجال من حرس الحدود المصري هم: أحمد صالح عريف متطوع 27 عامًا، وأحمد فراج عريف متطوع 25 عامًا والسنوسي أمين ٥٧ عاما وهو من أبناء النوبة المصرية، برفقتي ورفقة قائد المجموعة سيد الشرقاوي".
وفي هذا الوقت تلقي أبو النجا والمجموعة المرافقة له في العملية التعليمات التفصيلية وهي عبور قافلة الجمال من الضفة الغربية للقناة عند كوبري الشط إلي الضفة الشرقية ويتم التنسيق مع عناصر استطلاع مصرية بخصوص النقاط التي يمكن التسلل منها بالجمال والتوغل في العمق بحذر شديد علي أن يكون التحرك ليلاً فقط والاختفاء نهاراً حتي الوصول لمنطقة مضيق سدر علي بعد نحو ٧٠ كيلو مترًا والاتصال برجال الصاعقة.
وعبر أبو النجا ورفاقه وجماله علي المركبات البرمائية وأتموا العبور في الساعة الثالثة والنصف فجر الأربعاء العاشر من أكتوبر بعد معاناة شديدة، وبمجرد أن عبرت الدورية بالجمال الثغرة التي فتحها المهندسون في الساتر بخراطيم المياه سجد الجميع علي الأرض شكرا وهم يقبلون تراب سيناء واندفعت الدورية كما هو مخطط لها بمحاذاة شاطئ القناة ووضعوا في الاعتبار تجنب النقاط القوية التي لم تسقط بعد.
وبعد ساعات قليلة رأي الرجال بالقرب منهم معركة شرسة بين وحدات مدرعة إسرائيلية تحاول الدخول للنقطة القوية في لسان بورتوفيق لفك حصارها وتصدت لها عناصر الجيش المصري مدعمة بأطقم اقتناص الدبابات من الفرقة التاسعة عشر مشاة إحدي تشكيلات الجيش الثالث الميداني التي نجحت في تدمير بعض الدبابات وأجهزت قوات الصاعقة علي البقية وحرص أبو النجا ورجاله طوال الرحلة علي التحصن نهاراً في الحفر الناجمة عن القصف الصاروخي الجوي والمدفعي ووسط هذا الخضم الهائل من الأهوال والنيران فقد الرجال 14 جملاً ورغم ذلك ظل أبو النجا ورجاله يحتفظون بقدر من البأس ورباطة الجأش، وفي تمام الساعة الثانية بعد ظهر الأربعاء العاشر من أكتوبر شاهد الرجال سيارة مياه تقوم بإمداد عناصر مصرية وتذكر الجميع أنهم لم يذوقوا طعم النوم أو الطعام أو الشراب منذ الساعة الرابعة عصر الثلاثاء التاسع من أكتوبر ولكنهم رفضوا أن يشربوا مياهًا من الإمدادات واستعانوا بعصارة نبات السيال الموجود علي امتداد خط السير.. فضلوا العطش والجوع علي مد يدهم للمؤن التي كان أشقاؤهم في انتظارها.
وفي تمام الساعة العاشرة مساء الأربعاء العاشر من أكتوبر وصلت الدورية إلي بداية الطريق الإسفلتي المؤدي لرأس سدر وجنوب سيناء وتقدمت بمنتهي الحذر وبعد دقائق معدودة كان هناك اشتباك بين قوات العدو وعناصر أحد الأولوية المصرية وحاصرت النيران الرجال من كل جانب ورغم ذلك تقدم أبوالنجا في خط سيره وواجهتهم عربة إسرائيلية بطلقات الهاون نتج عنه فرار الجمال لمنطقة وعرة وفقدت الدورية جملا آخر ليصبح العدد خمسة جمال فقط ولم يجد الرجال بدًا من التحرك علي الجانب الأيسر للفريق وهي منطقة قريبة من عيون موسي فكانت مخاطرة غير مأمونة العواقب وبالفعل وجدت الدورية نفسها في مواجهة سرية دبابات إسرائيلية ولكنها تحركت بعيدًا عنها وبسرعة فائقة وكفاءة في التخفي.
ومع أول ضوء يوم الخميس الحادي عشر من أكتوبر وفي تمام الساعة السادسة صباحا سمع رجال الدورية أثناء اختبائهم أزير طائرات استطلاع العدو الجوي وعلي الفور هرول أبوالنجا إلي مكان يستطيع منه المراقبة ووجد أحد الجنود يطلق النيران من الطائرة علي المناطق التي مروا منها ومن خلفها طائرة أخري تقوم بإحراق الأراضي بالنابلم ويركزون علي خط سير الدورية فأعطي أبوالنجا أوامره للرجال بمغادرة الأماكن المختبئين فيها ولبس فروة خروف في الأقدام حتي لا تترك أثرًا ولم تمض سوي 15 دقيقة علي مغادرة المكان حتي قامت طائرات فانتوم بتدميره فتأكدوا أن العناية الإلهية ترعاهم وبحلول آخر ضوء يوم الخميس الحادي عشر من أكتوبر أصدر أبوالنجا أوامره للدورية بالاستعداد للتحرك وكان يتبقي علي الوصول للمضيق 23 كيلو مترا.
مرت الليلة هادئة رغم صوت دبابات العدو ومدرعاته وبدا الجبل العملاق الضخم أمام أعين الرجال ولا تفصلهم عن الزملاء الأبطال في المضيف سوي كيلو مترات قليلة.
استمر أبوالنجا طوال يوم الجمعة الثاني عشر من أكتوبر يتابع الموقف ويرصد نشاط العدو في المنطقة ويحاول تحديد ثغرة يمكن للدورية العبور منها نحو الرجال وعاد إلي الدورية ليجد عددا كبيرًا من الإبل ووجد أمامه أحد شيوخ البدو ومعه ابنه الشاب وبادر أبوالنجا: إحنا منتظرينك بفارغ الصبر، واتفق أبوالنجا مع الشيخ وابنه علي الذهاب للمضيق لاستطلاع الموقف مرة أخري وقرر الانتقال لمكان آخر علي بعد نحو خمسة كيلو مترات في منطقة كثيفة بالشجيرات والأعشاب فربما يتبع العدو البدو أو يتبعون أثر الأقدم عند أول ضوء في الصباح التالي.
وعاد الشيخ البدوي وطمأن أبوالنجا بأن كل شيء علي ما يرام فتم تقسيم القافلة نصفين يسلك كل منهما طريقا منفصلا وذلك لتوزيع المخاطر، وقبل فجر الأحد الرابع عشر من أكتوبر وصلت الجمال التي كان يقود أحدهما الشيخ السيناوي والأخري ابنه إلي رجال الصاعقة وأوصلا المؤن والسلاح إلي الرجال ليسجد الجميع شكرا لله فقد تحققت المعجزة ونجحت الجمال في تحقيق ما تعثرت فيه الطائرات والقوارب السريعة والمدرعات.
واختتم : "خلال مهمة (رحلة إلى جهنم) كنا 5 رجال برفقة 4 جمال، والبقية تعرضت للاستشهاد من خلال قنابل العدو التي كان يلقيها علينا كالمطر، فكنا نستخدم جسم الجمل للاختباء فيه هربا من شدة الضغط الناتج عن الانفجار، حتى وصلنا إلى منطقة عيون موسى وتمكنا من إسقاط الجبل على اللواء المدرع ملدرن الإسرائيلي وجنوده بالمتفجرات والقذائف، ثم عدنا من طريق آخر سيرًا على الأقدام لمسافة وصلت 180 كيلومترًا أصيب خلالها العقيد السنوسي بضربة شمس والعريف أحمد صالح بلدغة من ثعبان "الطريشة".
وأشار اللواء نبيل أبو النجا إلى أن كل ما قدمه رجال الصاعقة من أرواح ما هو إلا شيء بسيط فداءً لتراب الوطن، مطالبًا الشعب بالوقوف بجوار قواتنا المسلحة وأن يحافظ على مصر قلب العروبة النابض وسلاحها.
اللواء نبيل أبوالنجا مع أصدقاءه
اللواء نبيل أبوالنجا على جبهة القتال
اللواء نبيل أبوالنجا مع زملاءه