كل إنسان فى داخل عمره، عمر "تانى"، تتراجع معه سنوات عمره للوراء فى لحظات السعادة، وقد يتجاوز سنوات عمره الحقيقى حين تُعجزه مطالب الحياة، أو تصدمه ردة فعل من كان ينتظر منهم فقط حفظ الجميل، وليس رده ..
ويظل الحنين إلى الماضى واستدعاء ذكرياته الطيبة بدفئها وعواطفها واحة كل مشتاق لتحسين حالته المزاجية فى مواجهة ملل الحياة أو قسوتها..
هذا الحنين إلى الماضى يراه العلماء ظاهرة صحية ويصفونها بـ"نوستالجيا"، ويغشاها كثير من الناس مرة واحدة على الأقل أسبوعياً!
ولكن هل تخيلت يوما أن يعود الزمن بك إلى الوراء حتى تصبح طفلا بعد أن شارفت على زمن الكهولة، بمعنى أن تنعكس بك رحلة الزمن من عمر الستين أو الثمانين حتى تصل إلى سن الطفولة؟!
طبعا هذا الكلام هو المستحيل بعينه، وإن حدث فهو إبداع لايتجاوز دائرة الخيال العلمى المحض، وهو ما جسده واحد من أهم أفلام السينما الأمريكية The Curious Case of Benjamin Button، الذى أنتج عام 2008 وحاز على 13 ترشيح لجوائز الأوسكار، ليكون ثانى الأعمال عبر التاريخ من حيث عدد الترشيحات بعد فيلم "تيتانيك" الذى رشح لـ 14 جائزة فى عام 1997.
الفيلم اعتمد على "شخصنة الزمن"، لا يمر فيه الزمن فحسب، كما تمر الأيام والسنون، بل يعود إلى الوراء ويمضى إلى الأمام، من خلال قصة رجل عندما يصبح طفلا يكون عمره ثمانين سنة، يبدأ حياته عجوزًا لا يقوى على الحراك وينهيها طفلا حديث الولادة!.
الفيلم المقتبس من قصة قصيرة تعود إلى العام 1922، يدمج بين موضوعى القدر والحب، إذ يقدم قصة رومانسية ملحمية عن محبوبين عاندهما القدر.
يبدأ الفيلم بسرد قصة رجل "كفيف" فقد ابنه فى الحرب العالمية الأولى يصنع ساعة كبيرة توضع فى قلب المدينة، لكن هذه الساعة تتحرك عكسيا للوراء، وعندما يبلغونه بذلك، يقول "نعم صنعتها على هذا الشكل لعلها تعيد الذين ماتوا فى الحرب ومن بينهم أبنى"، فالساعة كانت الإنذار الأول الذى أطلقه الفيلم لشخصنة عامل الزمن، وتزامن مع عودة عقارب الساعة للوراء عودة بطل الفيلم فى النمو للوراء!!
بدأت حياة بنجامين بتون والتى يلعب دوره النجم "براد بيت"، يوم الاحتفال بانتهاء الحرب العالمية الأولى 1918، هذا الطفل الذى يولد كهلا فى الثمانين من عمره يتعرف على بطلة الفيلم لأول مرة وهى طفلة ويقع فى حبها وهو كهل؛ ومع مرور الزمن يصغر ليتحول لشاب مفعم بالحيوية ويجوب العالم على متن سفينة، ثم يلتقيان ويتزوجان وينجبان طفلتهما، لكنه يتخلى عنها؛ لأنه لن يستطيع مع مرور الزمن تربية ابنته التى تكبر مع الزمن وهو بالمقابل يصغر!!
لكن البطلة لم تتخلَ عنه؛ ومع ذلك يبدأ بنسيانها ونسيان المشى والحركة وحتى النطق ويموت أخيرا بين يديها طفلا رضيعا!
والسفر عبر الزمن نظريا؛ وليس عمليا؛ يعنى العودة إلى الماضى فى وقت سابق على الزمن الحاضر، وفق تصور هذا الفيلم، أو الانتقال إلى مستقبل الحاضر، عبر آلة أو جهاز تكنولوجى - سواء خيالى، أم افتراضى - وهو المعروف باسم "آلة الزمن" .
والمفهوم الذى أشاع ذلك فى روايات الخيال العلمى، هو الرواية التى كتبها جورج ويلز فى عام 1895 والتى تسمى "آلة الزمن"، والتى ألهبت مفهوم السفر عبر الزمن فى مخيلة البشر، ومع تقدم التكنولوجيا وتزايد فهم الإنسان للكون، أصبح السفر عبر الزمن أكثر قبولا وتداولا بين بعض المفكرين، وساهم فى تغذية ذلك كُتاب الخيال العلمى والفلاسفة وصُناع السينما، وحتى علماء الفيزياء.
بالطبع كل من تجاوز حصاد عمره حين من الدهر يتمنى ولو للحظات أن يعيش قصة هذا الفيلم حقيقة لا خيالا، وأن يتوارى الشيب من رأسه ليعود إلى المهد صبيا، أو أن يركب "آلة الزمن"، حتى وإن كانت سرابا، ليعود بجسده إلى زمن ماضيه الذى لم يعلق بذاكرته منه سوى كل جميل.. لكنه بالطبع لن يجد من ذلك شيئا، فهو غالبا سيجد نفسه الثابت الوحيد فى عالم متغير!..
فلن يتجول فى رحاب القرية والحارة ومقاعد الدراسة برفقة أصدقاء العمر الجميل، إلا من خلال "النوستالجيا"، فلا أحد يستطيع وقف مرور الزمن.
فلتحيا "النوستالجيا" تلك الحالة العاطفية الجميلة، التى يغرق فى حلم لحظاتها ويقلب فى أوراق ماضيها كل إنسان، لكن عليه ألا يُطيل الحلم حتى لا تتوقف عنده "آلة الزمن"!