فى شهر واحد هو شهر سبتمبر الحالى استخدمت الولايات المتحدة سلاح العقوبات فى اتجاهين مختلفين. الاتجاه الأول هو المضى قدماً فيما بدأَته سابقاً بمعاقبة كبار المسئولين فى المحكمة الجنائية الدولية، وعلى رأسهم المدعية العامة للمحكمة فاتو بنسودة، بسبب اعتزامها فتح تحقيق فى جرائم حرب تثور شكوك حول تورط الجنود الأمريكيين فى ارتكابها فى أفغانستان، وامتدت هذه العقوبات - التى تتمثل فى تجميد أموال مسئولى المحكمة فى المصارف الأمريكية ومنع دخولهم أراضى الولايات المتحدة ـ امتدت لتشمل كل من يقوم بتمويل تحقيقات هذه المحكمة التى وُصفت بالفاسدة تماماً.
وبرر وزير الخارجية الأمريكية مايك بومبيو تلك العقوبات بقوله إن المحكمة تقوم بمحاولات غير مشروعة لإخضاع الأمريكيين لولايتها القضائية. أما الاتجاه الثانى فهو إعلان استعداد الولايات المتحدة لمعاقبة الدول الأعضاء فى الأمم المتحدة التى لا تقبل بإعادة العمل بقرارات مجلس الأمن الصادرة ضد إيران فى إطار الفصل السابع، وهى القرارات الخاصة بالبرنامج النووى الإيرانى التى ألغاها مجلس الأمن بقراره الشهير رقم 2231 فى يوليو 2015. وبرر وزير الخارجية مايك بومبيو هذا التهديد بقوله إن إيران هى الراعى الرئيسى للإرهاب ومعاداة السامية فى العالم ، وإن دول العالم عليها أن تفى بالتزاماتها بتنفيذ العقوبات الأممية التى أعادت بلاده تفعيلها.
هكذا يتضح لنا بمقارنة الموقفين أن الولايات المتحدة ترفض إخضاع مواطنيها للولاية القضائية للمحكمة الجنائية الدولية، لكنها تعطى نفسها الحق فى معاقبة مواطنى الدول الأخرى ومؤسساتها وتخضعهم لولايتها.
بطبيعة الحال سيخرج من يقول لنا إن الولايات المتحدة لم تنضم للمحكمة الجنائية الدولية وهذا صحيح، بينما هى عضو دائم فى مجلس الأمن وهذا أيضاً صحيح، لكن تبقى جملة واحدة ناقصة لازمة لتوضيح الأمر، وتلك هى أن الولايات المتحدة انسحبت من الاتفاق النووى مع إيران وبالتالى لا يحق لها استخدام الآلية المسماة بالزناد، ومعناها التأهب لفرض العقوبات على الطرف المخل بالتزاماته فى الاتفاق. فى محاولة من الولايات المتحدة لتجاوز هذا المأزق لجأت إلى نوع من التلاعب القانونى بالقول إنها انسحبت من الاتفاق النووى مع إيران، بينما هى مازالت طرفاً فى قرار مجلس الأمن رقم 2231، وبالتالى يحق لها استخدام آلية الزناد الموجودة فيه، لكن القرار المذكور هو فى الأصل والأساس مبنى على الاتفاق النووى من ألفه إلى يائه، وبالتالى فإن الانسحاب من الاتفاق يترتب عليه منطقياً الانسحاب من القرار.
لكن هذا التلاعب صار هو الملاذ الأخير للولايات المتحدة بعد أن فشلت قبل شهر فى استصدار قرار من مجلس الأمن بتأجيل مفتوح لرفع العقوبات على بيع الأسلحة التقليدية لإيران، بل مُنيت الولايات المتحدة بهزيمة ثقيلة نتيجة اعتراض الصين وروسيا وامتناع 11 دولة عن التصويت على القرار، بحيث لم تؤيدها سوى دولة واحدة هى جمهورية الدومينيكان. هنا انتقلت الولايات المتحدة من المطالبة بمعاقبة إيران بما هو أدنى أى حرمانها من استيراد السلاح إلى معاقبة إيران بما هو أعلى أى استعادة كل عقوبات مجلس الأمن التى سبق رفعها. فى هذه الأثناء ضغطت الولايات المتحدة على اندونيسيا والنيجر رئيسى المجلس فى شهرّى أغسطس وسبتمبر لعرض قرار يتضمن استمرار رفع العقوبات عن إيران، حتى إذا استخدمت هى حق الڤيتو ضد القرار سقط، لكن هذه المحاولة فشلت بدورها لسبب بسيط هو أن رفع العقوبات بنص القرار 2231 مازال سارياً حتى تاريخه ولا يحتاج إلى إعادة تصويت.
لقد اعتدنا من الولايات المتحدة على العزف المنفرد خارج إطار منظومة أو معزوفة القانون الدولي، فرأينا الكونجرس يصادق على قانون داماتو فى عام 1996 فى ظل بيل كلينتون، وهذا القانون كان يقضى بمعاقبة كل من يستثمر فى قطاعّى النفط والغاز فى كل من إيران وليبيا بأكثر من 40 مليون دولار. ورأينا الجيش الأمريكى يعتدى على العراق عام 2003 فى ظل بوش الابن دون أى سند من مجلس الأمن، بل وفى ظل رفض دولى وشعبى واسع النطاق. ومع ذلك فإن تهديد الولايات المتحدة بمعاقبة الدول التى لا تسايرها فى تطبيق آلية الزناد أخطر من كل ما سبق، لعدة أسباب، أحدها أنه يجعل مجلس الأمن فى موقف المتفرج على الأحداث، فالولايات المتحدة اعتبرت أن عقوبات مجلس الأمن ضد إيران قد عادت وانتزعت لنفسها سلطة مجلس الأمن فى إنفاذ تلك العقوبات فى إطار الفصل السابع. وبالطبع فإن عدوان الولايات المتحدة على العراق هو أيضاً جعل المجلس فى موقف المتفرج، لكن الفارق أن الولايات المتحدة قامت بهذا العمل غير القانونى ولم تعاقب من لم ينضم إليها فيه، أما فى الحالة الراهنة فإنها تريد أن تجرف المجتمع الدولى كله معها لمخالفة القانون الدولي. ثانيها أن الأثر على حلف شمال الأطلسى أعمق بمراحل وهو يأتى فى وقت يعانى فيه الحلف موتا سريريا بتعبير الرئيس الفرنسى ماكرون، واللافت أنه رغم تبعية بريطانيا للقرار الأمريكى ومشاركتها الولايات المتحدة فى عدوانها على العراق فإنها رفضت إعادة العمل بالعقوبات الملغاة.
ثالثها أننا لو قارنّا بين داماتو وتفعيل آلية الزناد سنجد أن داماتو استهدف بالأساس أفرادًا وشركات يتعاملون مع إيران وليبيا فى مجال الطاقة، أما آلية الزناد فإنها تنتهى فى الأخير إلى إعادة العمل بكل العقوبات المفروضة على إيران، بما فى ذلك العقوبات العسكرية وصفقات السلاح التى تتم بالأساس بين الدول ووزارات الدفاع. الولايات المتحدة فى مأزق لأنها تدير ظهرها للحلفاء بعد أن أدارته للخصوم، لكن أوروبا بدورها فى مأزق ولأنها موزعة مابين رفضها الخضوع للإملاءات الأمريكية ورفضها التغاضى عن خرق إيران المتتالى لالتزاماتها فى الاتفاق النووي، وهذا موضوع المقال المقبل.
* نقلًا عن صحيفة الأهرام