فى إدارة مصر لأزمة سد النهضة، أوضح الرئيس السيسي في خطابه أمام الأمم المتحدة، بمناسبة مرور 75 عاما على تأسيسها، أن مصر لن تفرط فى حقوقها الثابتة فى إيرادات نهر النيل، وشدد على أن التفاوض هو نهج مصر لتحقيق التعاون والكسب المتبادل، بينما تسعى إثيوبيا لفرض أمر واقع يهدد بقاء مصر، ويدفع نحو الصراع والصدام المدمر.
وقد تعود مصر الى مجلس الأمن لينهض بمهمته فى حماية السلم والأمن الدوليين، بعد إخفاق الاتحاد الإفريقى فى إلزام إثيوبيا بتوقيع اتفاق قانونى ملزم لتسوية النزاع يراعي حق مصر فى الحياة وحق إثيوبيا فى التنمية.
ورغم غضبة الأمة المصرية من استمرار التعنت الإثيوبي، فإن على إستراتيجية مصر الإفريقية أن تنطلق من حقيقة أن مصر هى النيل، وأنه ما من منطقة يمكن أن ترتبط بها مصر أكثر من حوض النيل؛ خاصة الشرقى.
ولكسب الرأى العام والقادة السياسيين والنخبة المثقفة فى الدول الإفريقية، تبرز ضرورة أن ينطلق خطاب مصر الرسمي والإعلامى من أربع حقائق ثابتة: أولاها، الأصل الإفريقى لتكوين الأمة المصرية، وثانيتها، الإرث الحضارى لمصر القديمة والوسيطة فى إفريقيا، وثالثتها، دور مصر بعد ثورة 23 يوليو في تحرير إفريقيا من الاستعمار، ورابعتها، توجه مصر بعد ثورة 30 يونيو لتعزيز التنمية والسلام فى إفريقيا.
وأسجل، هنا فيما يتعلق بالأصل الإفريقى لتكوين المصريين، أن ثمة أصلين عرقيين لسكان إفريقيا منذ فجر التاريخ؛ وهما الزنجى في المناطق الاستوائية جنوب الصحراء الكبرى، من جهة، والقوقازى في شرق إفريقيا وإقليم الصحراء الكبرى وشمالها، من جهة ثانية. وكما سجل جمال حمدان فإن الصحراء الكبرى فى العصر المطير كانت هى المعمور، وكان وادى النيل وإقليم جبال أطلس هما اللا معمور؛ ولما حل عصر الجفاف أخذت الجماعات التى كانت تسكن الصحراء الكبرى تهاجر شمالاً تجاه ساحل المتوسط وغرباً إلى إقليم أطلس، وشرقاً إلى وادى النيل. والرأى السائد بين الأنثروبولوجيين، أن المصريين القدماء ينتمون أساساً إلى الحاميين الشرقيين، الذين ينتشرون حالياً فى كل شمال شرق إفريقيا حتى الصومال، وهم مجموعة لغوية واحدة مع الحاميين الشماليين الذين ينتشرون حالياً فى شمال غرب إفريقيا حتى موريتانيا.
وقد شكل الحاميون الشرقيون الفرشة الأساسية والأساس القاعدى فى تكوين مصر الأنثروبولوجى، أو التكوين العرقى للمصريين قبل عصر الأسرات الفرعونية، واللافت أن المصريين القدماء فى رواياتهم الشفوية لبعض الرحالة المتأخرين من الإغريق وغيرهم أشاروا إلى أن أجدادهم أتوا من الجنوب والشرق.
وقد أضاف مهاجرون إضافة مهمة وكبيرة لسكان مصر فى عصر ما قبل الأسرات، غير أنها لم تغير الأساس القاعدى الحامى الشرقى للمصريين، الذين كونوا الأمة المصرية منذ عصر الأسرات الفرعونية، ولم تقل نسبتهم فى أى مرحلة تاريخية عن 90% من سكان مصر رغم إضافات التسلل والغزو والهجرة اللاحقة.
وأسجل، ثانيا، فيما يتعلق بإرث مصر الحضارى والثقافى فى إفريقيا، أن تأثير مصر القديمة الحضارى قد غزا معظم القارة الإفريقية، لكن الثقل الأغلب لتوجه مصر الإفريقى النيلى كان يذهب الى إثيوبيا، مصدر الفيضان والمنبع الأساسي لمياه النيل، والأقرب جغرافيا وبشريا وتاريخيا وحضاريا.
وعبر محور النيل تأثر سكان كوش من النوبة حتى إثيوبيا بالنفوذ الحضاري المصرى وهو ما تجسده الأهرام الصغيرة فى مروِى وجبل بركال. وتأكد هذا الأثر على محور البحر الأحمر منذ رحلات الفراعنة إلي بلاد بونت، التي أطلق عليها المصريون القدماء أرض الأجداد، وتشمل عند بعض المؤرخين دائرة القرن الإفريقى، وتشمل عند البعض الآخر ساحل شرق إفريقيا. كما وجدت أدلة على المؤثرات الحضارية المادية والثقافية المصرية بين قبائل أعالي النيل وبعض قبائل نيجيريا وغرب إفريقيا، وسجل دهشتهم كل مستشفى شمال القارة من الأوروبيين منذ القرن الـ 17 لأنهم وجدوا ذكر مصر وهيبتها في كل مكان وصلوا إليه فى أعماق إفريقيا.
ومن موسوعة سليم حسن (مصر القديمة) نعرف أن تجارة مصر في عصر الدولة القديمة مع الشعوب المجاورة لم تكن لها ذات أهمية تذكر؛ باستثناء التجارة مع شعوب جنوب مصر الإفريقى. وكانت حماية حدود مصر وتجارتها تتطلب من وقت لآخر إرسال حملات للردع. ومنذ بدء عصر الأسرات قام المصريون ببعثات بالقوافل محفوفة بالمخاطر إلى المناطق الاستوائية.
وقد أرسلت أول رحلة مدونة الى بلاد بونت فى الدولة القديمة فى عهد الفرعون سحو رع، الذى أحضر إلى مصر الذهب والأبنوس من قلب إفريقيا.
وفى العصور الوسطى، كما يسجل حسين مؤنس فى كتابه «مصر ورسالتها»، جاهد أحبار الكنيسة القبطية المصرية حتى نشروا المسيحية في ممالك السودان الثلاث، وأنشأوا الكنيسة الحبشية التى بقيت حتى وقت قريب تابعة للكنيسة المرقسية المصرية.
وعن طريق مصر انتشر الإسلام فى شمال السودان، وإذا كان أوائل فقهاء المغرب والأندلس قد تعلموا فى المدينة المنورة؛ فإن فقهاء مصر صاروا أساتذة أجيالهم اللاحقة. وبين السنغال وليبيريا وساحل العاج وساحل الذهب، من ناحية، ومجرى النيجر الأعلى، من ناحية أخرى، كان إقليم شنقيط ذراعاً حضارية لمصر. وكانت صلات مصر وتمبوكتو، كبرى مدائن حوض النيجر الأوسط، موصولة حتى التدخل الأوروبى فى العصر الحديث، وكان أهل كل إفريقيا المدارية يفدون إلى مصر للتعلم، وبولاق الدكرور بالقاهرة منسوبة إلى التكرور، سكان ما يعرف الآن بتشاد والنيجر!.
* نقلًا عن صحيفة الأهرام